هذا النص القرآني المعجز جاء في مقدمات سورة البقرة, وهي سورة
مدنية, وآياتها286, وعلى ذلك فهي أطول سور القرآن الكريم علي
الإطلاق, وقد سميت بهذا الاسم لورود قصة بقرة بني إسرائيل فيها, وتتلخص
في أن يهوديا قتل في زمن نبي الله موسى, ولم يعرف قاتله, فعرض الأمر
على موسى( عليه السلام) لعله يستطيع المعاونة في الكشف عن القاتل,
فأوحى الله( تعالى) إليه أن يأمر القوم بذبح بقرة, وأن يضربوا الميت
بجزء منها فيحيا بإذن الله ويخبرهم عن قاتله, وبعد لأي طويل فعل قومه
ذلك, وتحقق ما وعدهم الله( تعالى) به كي تكون تلك الواقعة برهانا
عمليا أمام أعينهم على إمكانية البعث, وقد كانوا من المتشككين فيه أو
المكذبين لإمكانية وقوعه...!![size=18]
ويدور المحور الرئيسي للسورة حول
الأحكام التشريعية في العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات, وهي صلب
الدين.
ومن أسس العقيدة الإسلامية التي دعت إليها السورة الكريمة:
الإيمان بأن القرآن الكريم هو الصورة النهائية التي تكاملت فيها كل رسالات
السماء السابقة, وأنه كتاب لا ريب فيه, وأنه هدي للمتقين الذين يؤمنون
بالغيب ويقيمون الصلاة, ومما رزقهم الله ينفقون, والذين يؤمنون بما
أنزل إلي خاتم الأنبياء والمرسلين( صلى الله عليه وسلم), وما أنزل من
قبله وبالآخرة هم يوقنون.
وهذه الركائز الأساسية للدين ترددت في ثنايا
السورة مرات عديدة, مؤكدة حتمية الإيمان بالله الواحد الأحد, الفرد
الصمد, الذي لم يلد ولم يولد, ولم يكن له كفوا أحد, الذي لا شريك له
في ملكه, ولا منازع له في سلطانه, ولا شبيه له من خلقه, وذلك من أجل
النجاح في الدنيا, والنجاة في الآخرة, وتعرض السورة لشيء من صفات هذا
الخالق العظيم... تنزيها لجلاله عن الشبيه والشريك والمنازع, وتقديسا
لألوهيته وربوبيته ووحدانيته.
وتؤكد السورة الكريمة حتمية الإيمان
بملائكة الله, وكتبه ورسله دون أدنى تفرقة بينهم, والإيمان بالبعث
وبالحساب في الآخرة, وبالخلود في الجنة أبدا أو في النار أبدا, وهذه
كلها من أمور الغيب المطلق التي لا سبيل للإنسان في الوصول إليها إلا ببيان
من الله, بيانا ربانيا خالصا لا يداخله أدنى قدر من التصورات البشرية.
وفي
مجال العبادات, ركزت سورة البقرة على تفصيل أحكام الطهارة, والصلاة,
والزكاة, والصوم, والحج, والعمرة, والجهاد في سبيل الله, وعلى
تعظيم حرمة كل من البيت الحرام والأشهر الحرم, وبينت المحرمات من الطعام
والشراب والسلوكيات, وأن كل ما عدا المحرمات من الطعام والشراب يؤكل
ويشرب حلالا طيبا. وكذلك تأمر السورة الكريمة بالإنفاق في سبيل الله,
وبالإحسان الى الخلق.
وفي جانب المعاملات, أوضحت سورة البقرة أحكام
الزواج, والطلاق, والعدة, والرضاع, والقصاص, والوصية,
والدين, والرهن, والنذور, والصدقات, وحقوق الأيتام, وغير ذلك من
المعاملات المالية.
وحذرت السورة الكريمة من متابعة الكفار والمشركين
والمنافقين, خاصة من كان منهم من أهل الكتاب الذين حرفوا دينهم, وكذبوا
على رب العالمين, وأوهموا أنفسهم زورا أنهم شعب الله المختار, وأبناؤه
وأحباؤه, وأن لهم عند رب العالمين ما ليس لغيرهم من المخلوقين من أمثال
اليهود المجرمين, الذين كانوا ركازة الكفر عبر التاريخ, فوقفوا حجر
عثرة أمام كل دعوة ربانية صحيحة, وحاربوا الرسالة الخاتمة التي بعث بها
النبي الخاتم( صلى الله عليه وسلم) فعارضوه, ونقضوا كل عهودهم معه,
وتحالفوا مع عبدة الأوثان ضده, ولايزالون هكذا الى اليوم, والى أن يرث
الله( تعالى) الأرض ومن عليها... يمثلون أبشع صور الكفر, والظلم
والنفاق, وسوء الأخلاق وكراهية الحق, وبغض الإنسانية والاستعلاء كذبا
عليها, والتآمر ضدها تآمر الشياطين الملاعين ما وسعهم إلى ذلك سبيلا.
وتحدثت
سورة البقرة عن عدد من صفات المتقين, وعن بعض صفات المنافقين من الكفار
والمشركين, وضربت نماذج لكل من الطائفتين, كما عرضت لشيء من وصف نعيم
المتقين في الجنة, ولعذاب كل من الكافرين والمشركين في النار, وقد
ماتوا على كفرهم أو شركهم, ولذلك فسوف يخلدون فيها..!! وتصف السورة
جانبا من ذلهم وحيرتهم يوم القيامة..!!
وفي هذه السورة الأولى في
ترتيب المصحف الشريف بعد فاتحة الكتاب, جاء عرض رائع لقصة آدم( عليه
السلام) من لحظة خلقه, وخلق أمنا حواء( رضي الله عنها) الى لحظة
هبوطهما على الأرض.
وفي أكثر من ثلث هذه السورة المباركة, جاء
الحديث عن عصاة اليهود من بني إسرائيل( لعنهم الله في الدنيا والآخرة),
وعن حقارة نفوسهم, وخبث نواياهم, وشيطانية مكرهم, وخطورة كيدهم,
ولؤمهم, وغدرهم,وتحريفهم لدينهم, وكذبهم على الله, ورسله,
ومحاربتهم لأوليائه, وخياناتهم لكل الوعود والعهود والمواثيق التي
يقطعونها على أنفسهم, وتزييفهم للحق, ونصرتهم للباطل, وغير ذلك مما
جبلت عليه نفوسهم الشيطانية الشريرة من كفر بالله وشرك به, وكراهية للخلق
وتآمر عليهم, ورغبة دفينة في إيذاء الآخرين وتدميرهم, على الرغم من أن
الله( تعالى) كان قد نجاهم من آل فرعون الذين ساموهم سوء العذاب,
إلا أنهم عبدوا العجل, وحرفوا الدين, وكتموا ما أنزل الله من كتاب,
واشتروا به ثمنا قليلا.
كذلك أشارت سورة البقرة, الى اختلاف أتباع
عيسى( عليه السلام) من بعده فمنهم من آمن ومنهم من كفر, وعرضت لجانب
من قصة إبراهيم( عليه السلام) مع النمرود( عليه اللعنة), وكذلك
لقصته مع قضية البعث.
وتحدثت سورة البقرة, عن واقعة تحويل القبلة,
وأكدت أن الله( تعالى) قد جعل أمة الإسلام أمة وسطا ليكونوا شهداء على
الناس ويكون الرسول عليهم شهيدا.
وتأمر السورة الكريمة في العديد من
مقاطعها بالجهاد في سبيل الله دون اعتداء, وتعظم منازل الشهداء, ومنازل
كل من الصابرين في البأساء والضراء, والموفين بعهودهم إذا عاهدوا.
وتدعو
سورة البقرة في كثير من أجزائها, الى التأمل بعين البصيرة في آيات الله
العديدة المنتشرة في كل من الأرض والسماء, وتنهي عن اتباع الشيطان لأنه
عدو مبين للإنسان, كما تنهي عن أخذ الدين بالميراث, أي بالاتباع الأعمي
لما عليه الوالدان من دين, دون تمعن وتدبر واحتكام للعقل واقتناع بصحة
ما يعتنقه الفرد, وتنهي كذلك عن التداول بالمال الحرام, وعن رشوة
الحكام, وعن التعامل بالربا, وعن تناول الخمر, ولعب الميسر, وعن
أكل مال اليتيم, وعن التزاوج بين المسلمين والمشركين, وتأمر باعتزال
النساء في المحيض, وتكرر الحض على الإنفاق في سبيل الله, وتؤكد أن
الله( تعالى) هو الذي يؤتي الحكمة من يشاء, وأن من يؤتاها فقد أوتي
خيرا كثيرا, وتحذر الناس من يوم يرجعون فيه الى الله ثم توفي كل نفس ما
كسبت وهم لا يظلمون*, وتضع ضوابط للتعامل بالدين في آية تعتبر أطول آيات
القرآن الكريم, وتحذر من كتم الشهادة.. ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله
بما تعملون عليم*.
وتختتم بقول الحق( تبارك وتعالى):
لله ما
في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله
فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير* آمن الرسول بما
أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين
أحد من رسله, وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير* لا يكلف
الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت, ربنا لا تؤاخذنا إن
نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا,
ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا
فانصرنا علي القوم الكافرين*.
وهو دعاء يهز القلوب والعقول, ويحرك
الأرواح والمشاعر لما فيه من معاني الخضوع التام لله وحده بالعبودية,
والإقرار له وحده بالألوهية والربوبية, دون الشبيه أو الشريك أو
المنازع, والإيمان به( تعالى) وبملائكته وكتبه ورسله وباطلاعه على
خائنة الأعين وما تخفي الصدور, وتأكيد وحدة الرسالة السماوية دون أدنى
تفرقة بينهم.!! ثم طلب العفو, والمغفرة, والرحمة من الله( تعالى)
وطلب النصر منه علي كافة أنماط الكفار والمشركين من أمثال الصهاينة
المعتدين الغاصبين المتجبرين على إخواننا الفلسطينيين العزل الآمنين علي
أرض فلسطين, وأشياعهم من النصارى المتهودين كالأمريكان المتغطرسين بقوتهم
المادية على كافة شعوب الأرض, ومآلهم جميعا الدمار الكامل في الدنيا,
والخلود في نار جهنم في الآخرة إن شاء الله رب العالمين, وما ذلك على
الله بعزيز اللهم آمين.. آمين.. آمين يارب العالمين.
دمتم برعاية الله