التكامل الاقتصادي "سلعة عامة":
يعرف
الاقتصاديون "السلعة" بأنها كل شئ نافع من ناحية وأن توفيرها يتطلب تكلفة
أو تضحية من ناحية أخرى. فالسلعة يجب أن تكون نافعة ولكنها أيضاً ليست
مجانية. فليس كل شئ نافع سلعة. فالهواء وهو أنفع الأشياء لا يعتبر سلعة
لأنه لا يكلف شيئاً *
. والأصل أن العلاقة المنفعة والتكلفة تحدد ما ينتج من سلع، فطالما أن
المنافع تزيد على التكاليف، فان المجتمعات تتجه إلي توفير هذه السلع حيث
أن ما تحققه من ورائها من منافع يزيد على ما تتحمله من تكاليف وأعباء.
وتقوم عادة السوق بتوفير هذه السلع. ولكن هذا الأمر لا يتحقق دائماً حيث
أن هناك من السلع التي لا شك في منافعها والتي تزيد فيه هذه المنافع على
تكاليفها، ورغم ذلك فإنها لا تتوافر تلقائياً في السوق. وهذا يقتضي
التفرقة بين ما يعرف بـ"السلع الخاصة" private goods و"السلع العامة" public goods.
ويشترك
النوعان في أن توفيرهما يتطلب تكاليف وأعباء، وبالتالي فإنها ليست منحاً
مجانية، ولكنهما يختلفان في نوع المنفعة التي تترتب عليهما ومدى إمكان
الاستئثار أو شيوع الانتفاع بها. أما التكاليف فلابد وأن يتحملها أفراد أو
مؤسسات بعينها. وما لم يكن هؤلاء الأفراد والمؤسسات على استعداد لتحمل
تكاليف إنتاج السلعة، فانه لا يمكن توفيرها مما بلغت منافعها. ولذلك فان
توفير أي سلعة إنما هو رهن بمدى توافر الاستعداد لتحمل تكاليف وأعباء
توفيرها، فإذا لم يوجد هذا الاستعداد فلن تنتج هذه السلع وإن طال الحديث
عن أهميتها. وبطبيعة الأحوال فان الاستعداد الاختياري لتحمل تكاليف وأعباء
توفير السلعة، إنما يرتبط بمدى تقدير المنفعة العائدة من هذه السلعة
ومقارنة هذه المنفعة بالتكاليف المطلوبة. والعبرة هنا هو بالمنفعة
والتكلفة العائدة لمن يتحمل التكلفة، أما ما يعود على الغير فانه لا يدخل
في الحساب. ولذلك فمن الضروري أن تكون هذه المنافع قابلة للاستئثار وليست
شائعة. وهنا نجد أن السلع تختلف فيما بينها من حيث شيوع أو استئثار
المنافع المترتبة عليهـا. وهـذا هو أسـاس التفرقة بين " السلع الخاصة " و"
السلع العامة ". فالأولـى تعـرف مبدأ الاستئثار principle of exclusion
بمعنـى أن المستخـدم للسلعة يفيد منها – بشكل عام – وحده دون مشاركة
الآخرين، وبالتالي فانه يكون عادة على استعداد لتحمل تكاليفها. وتنجح
السوق بالتالي في توفيرها. أما "السلع العامة" فان منافعها تكون عادة
شائعة، فمتى أديت لفرد فان الغير يمكن أن يفيد منها بلا تكلفة، الأمر
المعروف في أدبيات الاقتصاد بـ"الراكب المجاني" free rider.
ومن هنا فان السلع العامة تثير عادة مشكلة كبرى في توفيرها. فهي ليست أقل
أهمية أو فائدة من "السلع الخاصة"، بل قد تكون أكثر أهمية، مثل توفير
الأمن والاستقرار والعدالة ونظام نقدي مستقر ومرافق عامة – ومع ذلك
فالغالب ألا يتقدم أحد، اختياراً، لتحمل تكاليف توفيرها اعتماداً على فكرة
الراكب المجاني. فلماذا يتقدم أي فرد لتحمل أعباء إنتاجها أو توفيرها مع
علمه أن توفيرها سيفيد الآخرين دون تكلفة (الراكب المجاني)؟ وكل
فرد يفضل الانتظار لكي يتقدم غيره بتحمل تكلفة السلعة ويفيد منها هو
باعتباره "راكباً مجانياً". ولذلك فرغم إدراك كل فرد بأهمية السلع
والخدمات العامة، فعادة لا يمكن توفيرها اختيارياً، والأصل أن تتوافر عن
طريق تدخل وقهر السلطة، التي تقتطع الضرائب جبراً من الأفراد وتوفر
الخدمات العامة بحصيلة هذه الضرائب أو عن طريق نوع من التوافق العام كما
في العديد من الأعمال الخيرية. ومن هنا فانه رغم الاعتراف بأهمية وضرورة
السلع العامة، تقوم دائماً مشكلة مدى توفير هذه السلع. وتختلف المجتمعات
في مدى قدرتها على توفير مثل هذه الخدمات وفقاً لمدى توافر نظم سياسية
واجتماعية قادرة على اقتطاع الموارد جبراً أو اتفاقاً وتخصيص هذه الموارد
لتوفير هذه السلع العامة وتوزيعها على الأولويات المختلفة. وكثيراً ما
تفشل المجتمعات في توفير هذه السلع أو توفيرها بشكل مناسب نتيجة لطبيعة
النظام السياسي والاجتماعي ومدى قدرته على استخدام القهر المشروع أو
التوافق العام لتوفير هذه السلع والخدمات العامة. ومن هنا فإننا لا نجد أي
تناقض أو عدم رشادة في التأكيد على أهمية ومنفعة سلعة أو خدمة من ناحية
وعدم إمكان توفيرها من ناحية أخرى. فالاعتراف بمنفعة السلعة أو الخدمة لا
يعنى، منطقياً قبول تحمل أعباء وتكاليف إنتاجها وتوفيرها. فقد تتركز
التكاليف والأعباء على فئة في حين أن المنفعة تكون شائعة وموزعة على
آخرين. وبالتالي نكون بصدد سلعة أو خدمة عامة بحيث لا يكون أحد مستعداً
لتحمل أعباء توفيرها)[6] (.
ولذلك فانه من المتفق عليه أن السلع والخدمات العامة لا يمكن توفيرها
اختياراً – رغم أهميتها – وأنه لابد من تدخل سلطة عليا أو الوصول إلي
اتفاق بين المتعاملين على كيفية توفيرها وتوزيع أعباء إنتاجها عليهم.
وفيما
يخص الموضوع الذي نحن بصدده، فإننا نعتقد أن التعاون أو الاندماج
الاقتصادي العربي هو نوع من السلعة أو الخدمة العامة الإقليمية التي تعود
بالنفع على الجميع، ولكن هذا النفع شائع متى تحقق أفاد منه الجميع ولا
يمكن حرمان أحد منه. وعندما نتحدث عن الجميع فإننا نشير إلي الأفراد
والمشروعات سواء منها القائمة أو المحتملة الإنشاء، وسواء منها الوطني أو
الأجنبي – فالجميع يشمل كافة الوحدات الاقتصادية في الحاضر والمستقبل التي
تتعامل مع الاقتصاد. وبالمقابل فان توفير هذه السلعة أو الخدمة ليس أمراً
مجانياً، بل يترتب عليه أعباء وتكاليف. وإذا كانت منافع التعاون الاقتصادي
تعود على الجميع بهذا المعنى، فان القرار في شأنها هو من شأن السلطات
السياسية التي تضع القيود على سيادتها ومدى الحواجز بين الصناعات القائمة
بها وبين الخارج. ففى حالة التعاون الاقتصادي العربي، فإننا نجد أنفسنا
بصدد وضع لدول مستقلة عليها أن تقدر المنافع والأعباء التي تعود عليها –
كدول أو نظم سياسية – من هذا التعاون وما يترتب على ذلك من تأثير على
نشاطها الاقتصادي. فإذا كانت الأعباء التي تفرض على هذه الدول – كنظم
سياسية أو قطاعات اقتصادية – تجاوز المنافع التي تعود عليها مباشرة فلا
أمل في أن تقبل مثل هذا التعاون. ولا يتناقض هذا السلوك إطلاقاً مع
الرشادة الاقتصادية، بل أنه يعتبر انصياعاً لها. فليست
الرشادة هي في المقارنة بين المنافع الإجمالية والتكاليف الإجمالية، وإنما
هي في المقارنة بين المنافع العائدة إلي متخذ القرار السياسي بالتكامل
الاقتصادي والتكاليف التي يتحملها، أما ماعدا ذلك فانه لا يعدو أن يكون من
العناصر الخارجية externalities
التي لا تدخل في حسابه. فنقطة البدء في المناقشة قضية التعاون الاقتصادي
العربي، هي أنها قضية تعنى بالعلاقة بين قرارات سياسية – تتخذ لإزالة
العقبات أمام التكامل الاقتصادي وان المنطق وراءها هو مدى ما يتحقق لمتخذي
هذه القرارات من منافع أو تكاليف تعود عليها مباشرة نتيجة لمثل هذه
القرارات.
بدأ
الحديث عن التعاون الاقتصادي العربي – كما ذكرنا – منذ إنشاء الجامعة
العربية بعد الحرب العالمية الثانية وارتفعت النبرة خلال فترة الخمسينات
والستينات فيما عرف بحركة القومية العربية. وهكذا فان الدعوة إلي التعاون
– أو الاندماج الاقتصادي – ارتبطت في الأساس بدعوة سياسية قومية. وتستند
هذه الدعوة إلي وحدة الأمة العربية، وإن الحدود السياسية إنما هي حدود
اصطناعية فرضها الاستعمار ومن ثم وجب إزالتها. فالأقطار العربية القائمة
ينبغي أن تزول لتتحقق الوحدة العربية السياسية. وهكذا جاءت الدعوة للتعاون
الاقتصادي العربي في بدايتها وتحمل في طياتها – بشكل غير صريح ولكنه غير
خفي – تساؤلات عن مدى شرعية الحدود السياسية ووجود الأقطار العربية نفسها.
وقد عاصر هذه الفترة شيوع نظم حكم عربية ذات طابع عسكري وانقلابي مما ساعد
على تأكيد هذه الهواجس والمخاوف. وهكذا بدا كما لو كان ثمن التعاون
الاقتصادي العربي هو تهديد نظم الحكم والأوضاع الاقتصادية القائمة في
العديد من البلدان. وهى تكلفة عالية لا يقبل أحد بتحملها حتى وإن كانت
المنافع المقابلة هي اتساع السوق وزيادة الازدهار الاقتصادي، وهى منافع
شائعة تعود على الجميع بلا تحديد. ومع بروز الثروة النفطية، وخاصة في
السبعينات، ظهر تناقض أكبر بين الثروة المالية الجديدة وبين دعوة الوحدة
العربية أو الثورة العربية. فالتعاون الاقتصادي العربي بدا – بشكل ما –
كما لو كان دعوة للمشاركة في هذه الثروة الجديدة الوافدة، الأمر الذي أوجد
حساسية لدى قطاعات واسعة من مواطني الدول الخليجية. وبذلك فقد تضمنت
الدعوة إلي التعاون الاقتصادي العربي – منذ البداية – تهديداً للنظم
السياسية القائمة وللهياكل الاقتصادية السائدة. وقد يبدو غريباً – ولكنها
الحقيقة – أن تتناقض الدعوة إلي القومية العربية – في صورتها القائمة
آنذاك – مع متطلبات التعاون الاقتصادي العربي، حيث بدت تلك الدعوة كما لو
كانت تمثل تهديداً للنظم السياسية القائمة في العديد من البلدان العربية.
وهكذا فقد ولدت الدعوة للتعاون الاقتصادي في إطار مع الدعوة القومية
للوحدة السياسية وإزالة الدولة القطرية، وهو ما يمثل ثمناً باهظاً لعديد
من النظم السياسية، وبالتالي وجب منطقياً عدم الحماس له.
ولا
يقتصر الثمن السياسي للتعاون الاقتصادي العربي – آنذاك – فيما بد من
تهديدات لاستقرار العديد من النظم السياسية، بل أنه حتى مع اختفاء مثل هذا
التهديد وخاصة بعد أن بدأت مرحلة التعايش بين النظم المختلفة بعد حرب 67،
فان هذا التعاون كان يتضمن – بشكل ما – تقييداً لسلطات النظم السياسية
القائمة في العديد من البلدان العربية. فالحاكم في معظم البلدان العربية –
آنذاك – وأيا كان لقبه – ملكاً أو أميراً، أو رئيساً، أو قائداً – هو عادة
حاكم مطلق لا تكاد تحد إرادته أية قيود، وهو يتمتع بهذه السلطات تجاه
أبناء شعبه حيث لا سلطة تعارضه. ولاشك أن فتح الأبواب للأبناء الدول
الشقيقة – ووراء كل منهم حكومته – من شأنه أن يقيد من سلطات الحاكم إزاء
بعض الضغوط من الدول الشقيقة حماية لمصالح أبناءها، الأمر الذي يتضمن
تضيقاً لسلطات الحاكم. ومن نفس المنطلق وجدنا أن العديد من النظم العربية
قد قاومت – خلال التسعينات – إجراءات الإصلاح والتحرير الاقتصادي الداخلي،
لأنها تضمنت – في التحليل الأخير – تقليصاً لسلطات الحكومات المركزية في
الشؤون الاقتصادية. فالتحرير الاقتصادي يعنى وضع بعض الحدود على سلطات
الحكومات المركزية بما يتيحه من حرية حركة للقطاع الخاص. وليس بعيداً عن
ذلك حال التعاون الاقتصادي العربي، ذلك أن مزيداً من التعاون الاقتصادي مع
أبناء الدول الشقيقة يضع حدوداً مماثلة على سلطات الحكومات المركزية بما
يفرضه عليها من مراعاة احتياجات الدول الشقيقة وضغوطها. فالنظم المطلقة
تتمتع بسلطات واسعة إزاء مواطنيها، وليس الأمر كذلك بالنسبة لمواطني الدول
الأخرى – بمن فيهم مواطني الدول الشقيقة. وهكذا فان فتح باب النشاط
الاقتصادي لمواطني الدول الشقيقة لا يخلو من فرض بعض القيود على حرية هذه
النظم. ولذلك فان فتح الباب لغير مواطني البلد يتضمن عادة ثمناً سياسياً
لتلك النظم حيث لا تستطيع أن تباشر نفس السلطات على غير مواطنيها.
وإذا
كانت الدعوة إلي التكامل الاقتصادي العربي قد صاحبها – وخاصة في بدايتها –
مخاوف من تحمل تكاليف وأعباء سياسية للنظم السياسية القائمة – فان الأمر
لم يخل أيضاً من تكاليف وأعباء اقتصادية يمكن أن تتحملها بعض القطاعات
الصناعية التي تتمتع بحماية لا ترغب في التخلي عنها.
فالصناعة
في معظم الدول العربية قد قامت على أساس إحلال الواردات ووجود سوق محلية
تحظى بحماية جمركية عالية نسبياً. ولذلك فان هذه الصناعات ترى بشكل عام في
تحرير التجارة مع العالم الخارجي أو من خلال تعاون إقليمي أضعافاً لمركزها
التنافسي في الداخل، وبالتالي مهددة لأرباحها. وهكذا فان مثل هذه الصناعات
تعبر عادة عن نوع من المقاومة لأية إجراءات يترتب عليها أضعاف ما تتمتع به
من حماية للسوق المحلى. ومن هنا موقفها المناوىء في كثير من الأحيان
لإجراءات التعاون الاقتصادي الإقليمي فيما يتضمنه من تخفيف أو إزالة ما
تتمتع به هذه الصناعات من مركز متميز في أسواقها المحلية.
والتعاون
الاقتصادي الإقليمي، شأنه شأن كل قرار اقتصادي، يؤدي إلى منافع وأضرار،
عوائد وأعباء. فهناك المستفيدون منه. كما أن هناك أيضاً المتضررين،
والعبرة في النهاية هي بالمقارنة بين حجم ووزن المنافع من ناحية وحجم ووزن
الأضرار من ناحية أخرى. ومع ذلك فإن الأمر ليس متعلقاً فقط بالحجم المطلق
لكل منهما، بل كثيراً ما يتعلق بالصوت العالي Voice.
فهناك بعض المصالح القادرة على التعبير عن نفسها بقوة رغم أنها قد لا تكون
كبيرة، في حين أن مصالح أخرى كبيرة قد لا تنجح في التعبير عن نفسها بنفس
القوة رغم أهميتها. ويعتبر المثال السابق عن موقف بعض الصناعات الوطنية من
تحرير التجارة بالمقارنة بموقف جمهور المستهلكين منه نموذجاً واضحاً
للعلاقة بين الصوت العالي وحجم المصالح.
فإذا
كان تحرير التجارة يضعف من الوضع التنافسي – أو الاحتكاري – لعدد من
الصناعات الوطنية، فانه يوفر للمستهلكين في نفس الوقت فائدة كبيرة في
إتاحة السلع بأسعار أقل وربما بنوعية أفضل. وهكذا نجد تقابلا بين ما قد
يلحق بعض الصناعات من خسارة، وبين ما قد يحققه المستهلكين من كسب كنتيجة
لتحرير التجارة أو للتعاون الاقتصادي الإقليمي. وقد يكون الكسب المتحقق
أكبر من الخسارة الواقعة، ولكن الغالب هو أن صوت الصناعيين يكون عادة أعلى
وأقوى من صوت المستهلكين. ولذلك أسباب. ونشير في هذا الصدد إلي أمرين.
الأمر الأول التفرقة بين الخسارة "المحققة" "realized loss" وبين الكسـب "الضائع" "foregone benefit"
فهنـا نقارن بين شركة تحقق بالفعل خسارة أو نقصاً في الأرباح، وبذلك فإنها
تتحدث عن أشياء تحققت بالفعل بالمقارنة بالماضي، وهى أمور يمكن قياسها،
وبالتالي فان الشعور بها يكون عادة قوياً. أما الكسب المحتمل، أو المتوقع،
فهو إشارة إلي "أمل" لم يتحقق في أي وقت في الماضي، وإنما هو تطلع إلي
المستقبل. ولذلك فان المطالبة به تكون أقل حدة مما هو الحال في الدفاع عن
الخسائر المتحققة. هذا عن الأمر الأول الذي يؤدى إلي رفع أصوات المقاومة
أعلى من أصوات التأييد. أما الأمر الثاني فهو يرجع إلي تركز أو تفرق أصحاب
المطالبات. فبالنسبة لأصوات الصناعة المطالبة بإبقاء الحماية فان عدد
الصناعات يكون عادة محدوداً ولذلك فان حجم الخسارة التي تلحق بكل منهم
تكون عادة كبيرة تبرر المطالبة بالصوت العالي فضلاً عن أنهم لقلة عددهم
يكونون عادة قادرين على تنظيم مقاومتهم بشكل فعال. أما أصحاب المصلحة في
خفض أسعار السلع المتاحة وتحسين نوعيتها فانهم من جمهور المستهلكين، وهم
أعداد كبيرة متفرقة كل منهم قد يحقق كسباً صغيراً. ورغم أن مجموع المكاسب
قد يكون كبيراً بل وكبيراً جداً، فإن أصوات المطالبة بالتحرير قد لا تكون
عالية. فهم لتفرقهم وتشتتهم غير قادرين على التنظيم وبالتالي الفاعلية.
وهم أيضاً بالنظر إلي تشتتهم فان النفع العائد على كل منهم يكون عادة
قليلاً لا يبرر الـتعبئة الكبيرة لهذه القضية. ومن هنا كثيراً ما نجد أن
مصالح الأقليات تجد آذان صاغية أكثر من مصالح الأغلبية، لأنه الأغلبية
بطبيعتها كسولة وغير منظمة. وينطبق هذا المنطق بالنسبة للمقاومين
والمؤيدين لإجراءات تحرير التجارة. فالمقاومة تأتى عادة من أقلية نشطة ذات
مصالح كبيرة ومركزة، في حين أن التأييد لا يظهر بنفس القوة لعدم تركز هذه
المصالح وتشتتها بين أعداد كبيرة قليلة الاهتمام.
وما تقدم لا يحول دون الإعتراف بأن هناك إعتراضات تمثل معارضة مشروعة للحماية
من المنافسة "غير العادلة" من الدول الشقيقة. فمنتجات بعض الدول تتمتع
بميزة تنافسية تجاه أسعار الدول الأخرى الشقيقة المنافسة ليس بسبب كفاءة
إنتاجية وإنما بسبب مزايا تتمتع بها في دولها في شكل إعانات صريحة أو
ضمنية. وقد اعترفت اتفاقات منظمة التجارة العالمية بحق الدول المنضمة إلي
الاتفاقية باتخاذ إجراءات لمواجهة "الإغراق" أو الإعانات لحماية الصناعة
المحلية في مواجهة منافسة الدول الأخرى. ولا شك أن نوعاً من هذه الإجراءات
لابد وأن يراعى في تحرير التجارة ضمن أشكال التعاون الاقتصادي العربي.
ولذلك فقد يكون من الواقعية الاعتراف بمشروعية جزء من هذه المخاطر التي
تتعرض لها بعض القطاعات من جراء فتح الأبواب بين الدول العربية، والعمل
على وضع آلية "لتعويضها" عن هذه المخاطر.
ومن
هنا فقد يكون من المناسب أن تتضمن برامج التكامل الاقتصادي الاتفاق على
تخصيص ميزانية وموارد مالية مناسبة لتعويض الأطراف المتضررة من زيادة حجم
التكامل الاقتصادي العربي، والعمل في نفس الوقت على الإزالة التدريجية
لأسباب هذه الأضرار. وقد عملت السوق الأوروبية منذ البداية على الاعتراف
بأن بعض القطاعات – وخاصة في الزراعة في بعض الدول مثل فرنسا – يمكن أن
تضار أكثر من غيرها من مزيد من التكامل الاقتصادي الاوروبى، فكفلت اتفاقات
التعاون الاقتصادي الاوروبى توفير آلية لتعويض هذه القطاعات. ومن هنا
ينبغي النظر إلي التكامل الاقتصادي العربي باعتباره مشروعاً اقتصادياً له
منافع كما أن له تكاليف، وهذه وتلك لها نتائج مالية يجب أن تتحملها الدول.
فبالتكامل الاقتصادي العربي، مثل أي مشروع هام ولكنه ليس هبة بلا تكلفة،
ولكن فوائده أكبر.
الخلاصـــة:
إذا
كان التحليل السابق صحيحاً، فان معنى ذلك أن التعاون الاقتصادي العربي لم
يتحقق في الواقع رغم ما بدا من منافعه لأن هناك أسباباً منطقية تبرر
تجاهل هذه المنافع الاقتصادية حيث أن هناك تكاليف وأعباء أكثر أهمية
وخطورة من هذه المنافع بالنسبة لمتخذي القرار، وهو عادة قرار ذو طابع
سياسي حيث يتعلق بعلاقة الدولة بالخارج ومدى حدود سلطاتها وسيادتها.
هناك
أولاً مجموعة من العقبات الراجعة لقصور أو نقص في البنية الأساسية المادية
مثل المواني وخطوط الملاحة والطرق والسكك الحديدية. ولكن هناك عقبات أشد
قسوة في البنية الأساسية المؤسسية مثل إجراءات التخليص الجمركي والعبور
عبر الحدود، وأحياناً نظم التحويلات النقدية والمصرفية، وضعف التسويق
وتوافر المعلومات عن مصادر التوريد واحتياجات الأسواق. والقائمة طويلة.
وينبغي الاعتراف أن هناك تحسناً في هذا الميدان، وفى جميع الأحوال فان هذه
الأنواع من القصور والنقص تؤثر في قدرة الدولة التصديرية سواء في إطار
التعاون الاقتصادي العربي أو في التعامل مع العالم الخارجي بوجه عام.
ولكن إلي جانب هذه العقبات المادية والمؤسسية، فهناك أسباب سياسية)[7] ( – موروثة أو قائمة – تجعل التكلفة السياسية أو الاقتصادية لمتخذي قرارات إزالة الحواجز أكثر من العائد الاقتصادي المباشر عليهم،
رغم أن المنافع الاقتصادية الإجمالية العائدة على المجتمع قد تكون أكبر من
هذه التكلفة المباشرة. وقد بينا أنه في وقت من الأوقات حملت الدعوة إلي
التكامل الاقتصادي تشكيكاً في وجود الدولة القطرية أو كانت محملة برسائل
سياسية مناهضة أو مهددة للنظم القائمة، وبالتالي فقد كانت هناك تكلفة
سياسية تجاوز أية منافع اقتصادية عامة. ورغم أن الظروف قد تغيرت، فلازال
هذا الموروث التاريخي يلعب دوراً غير محسوس. كذلك فان مزيداً من الانفتاح
الاقتصادي، وخاصة لعناصر غير محلية، من شأنه أن يضعف سلطات الحاكم شبه
المطلقة في معظم الدول العربية. ومن هنا رأينا أن الاتجاه في عديد من
الدول العربية نحو الإصلاح الاقتصادي وفتح الباب للقطاع الخاص كان متردداً
بالنظر إلي ما يترتب على اتساع دور القطاع الخاص من وضع القيود على حرية
حركة السلطة السياسية التي تعودت في كثير من الدول العربية، على الإمساك
بكافة خيوط السلطة سياسية كانت أو اقتصادية. وإذا كانت بعض هذه الدول قد
اضطرت إلي توسيع دور القطاع الخاص تحت ضغط الأعباء الاقتصادية المتزايدة –
الديون الخارجية – وبتأثير المؤسسات الدولية، فلازال القطاع الخاص المحلى
أكثر ليونة وإنصياع من القطاع الخاص الخارجي، ولذلك فإن القطاع الخاص
المحلي يكون عادة أكثر قبولآً لأشكال الحكم المطلق من القطاع الخاص
الخارجي. ولكل ذلك فان منطق التعاون الاقتصادي الإقليمي لا يزدهر إلا في
إطار من الديمقراطية. فالنظم الديمقراطية ليست – بطبيعتها – عدائية أو
تآمرية، فضلاً عن أنها بتداول السلطة، فإنها لا تسمح بقيام السلطة المطلقة
للحكومات والتي تقاوم أية مشاركة في هذه السلطة، سواء من الداخل أو من
الخارج. وقد يكون من المفيد هنا أن نتذكر أن من أسباب نجاح التعاون
الاقتصادي الاوروبى، هو أن القائمين على إنشاء السوق الأوروبية المشتركة
قد عمدوا منذ البداية في اتفاقية روما بإنشاء السوق عام 1957
على التأكيد على أن المشاركة في عضوية هذه السوق سوف يقتصر فقط على الدول
الأوروبية التي تمارس الديمقراطية وتشترك في المبادئ والقيم العامة
لاحترام حقوق الانسان. فمع شيوع الديمقراطية واحترام حقوق الانسان تتضاءل
إلي حد بعيد المزايا السياسية للاستئثار بالحكم والسيطرة على جميع
المقررات السياسية والاقتصادية للبلاد. وبذلك لا ترى السلطة السياسية
القائمة في زيادة التعاون الاقتصادي الإقليمي إقتئاتاً أو انتفاصاً
لسلطتها السياسية. وعلى العكس فان هذه الحكومات الديمقراطية ترى – مع
التأكد الشعبي لجهود الوحدة - أن الإسراع بإجراءات التكامل الاقتصادي مع
شركائهم مما يدعم التأييد الشعبي لهم وبالتالي يزيد من سلطتهم السياسية.
ففى أوروبا الديمقراطية، كان الإسراع في خطوات التكامل الاقتصادي تدعيماً
سياسياً للحكومات القائمة بزيادة التأييد الشعبي لهم. وليس الأمر كذلك في
الدول غير الديمقراطية، حيث تتحدد سلطات المحاكم بحجم ما يجده تحت تصرفه
من سلطات سياسية أو اقتصادية، وليس بالضرورة بما يجده من تأييد شعبي.
ولكن
التكاليف التي تترتب على مزيد التكامل الاقتصادي لا تقتصر على ما تقدم،
فهناك أيضاً تكاليف اقتصادية لعدد من القطاعات الاقتصادية التي تعودت على
العمل في إطار من الحماية الجمركية. وقد أشرنا إلى أنه رغم أن هذه
التكاليف والأعباء تتعلق عادة بأقلية، فإن صوتها يكون عالياً وتأثيرها على
متخذي القرار السياسي يكون – عادة – أوضح أثراً بالنظر إلي سهولة العمل
المنظم من خلال الأقلية بعكس الأغلبية المبعثرة، فضلاً أن هذه المصالح –
نظراً لتركزها في عدد قليل – تكون عادة مصالح هامة تؤدى إلي ظهور مقاومة
شديدة وفعالة.
وأخيراً
فقد أشرنا إلي أن المطالبة بنوع من الحماية من منافسة الإنتاج في الدول
الأخرى لا ترجع دائماً إلي الأوضاع الاحتكارية أو شبه الاحتكارية التي
تتمتع بها بعض الصناعات، بل تكون في كثير من الأحيان مبررة نظراً لما
تتمتع به من الصناعات في الدول العربية من أنواع من الدعم الظاهر أو الخفي
الذي يشوه من حقيقة المنافسة. ومن هنا فان العلاج يتطلب الاعتراف بهذه
الأمور وإيجاد آلية لمعالجة هذه المطالب المشروعة. وقد يكون من المفيد في
هذا الصدد ألا تقتصر جهود العمل على التكامل الاقتصادي العربي على
المطالبة بإزالة الحواجز، وإنما الاعتراف بأن التعاون أو التكامل
الاقتصادي العربي هو مشروع له تكلفة كما أن له منافع، وبالتالي ضرورة
توفير "ميزانية عربية" لهذا المشروع، لتعويض المتضررين من هذا المشروع.
وبدون الاعتراف بهذه التكلفة ومحاولة تعويضهم عنها، فسنظل نتكلم عن مزايا
التعاون الاقتصادي في المنتديات والمؤتمرات، ولن يمنع ذلك المتضررين منها
من العمل على وقفها في هدوء وبلا جلبه والله أعلم.