* نجلاء حمادة
سننطلق في هذا البحث حول حدود الحرية المتاحة للعالم
والمفكر تحديداً في العالم العربي , لنعالج الموضوع متبعين في هذا تقسيم غاري
واطسون للعوامل التي تحد من الحرية كماوردت في مقدمة كتابه الارادة الحرة .
فواطسون يعرف الحرية العملية على انها " وضعية يعيشهاالانسان في غياب القيود
النابعة من الداخل كالمخاوف والادمان والعصاب والخضوع لعمليات غسل الدماغ " .
أولاً : القيود الخارجية
ان القيود الخارجية المسربلة لحرية الفكر في العامل
العربي تنبع مما يضعه العالم الغربي المسيطر من حدود سياسية , ومما يعانيه العالم
العربي من العوائق المادية , من امكانات مالية وثقافية ( بمعني المؤسسات من جامعات
ومراكز بحوث ) وتبع بالدرجة الاولى من الممارسات السلطوية المحلية
فالسياسة العاملية المسيطرة , التي تلقينا منها دروساً
قاسية في العراق وليبيا وغيرهما , تحرص على حصر التفوق العلمي في المنطقة باعدائنا
, وتظهر لنا ان الجوع واعاقة الاطفال وموتهم من سوء التغذية ومن انحسار الخدمات
الطبية يكون قصاصنا اذا لم ننكفئ عن بعض العلوم لنتركها لاربابها من الاعراق
المدللة في هذا العصر .
اما النواحي المادية فهي غالبا غير متوافرة مناجل البحوث
الباهظة التي كثيرا ما تتطلبها الابحاث الاختبارية في حقول العلوم الطبيعية . وعلى
الرغم من ان بعض الدول العربية كالكويت ومعظم دول الخليج تعد من اغنى دول العالم
قياسا على نسبة دخل الفرد فيها , فان التقسيم المشرذم لهذه " الدول "
وقرب عهدها بالثقافة الحديثة وحرص القوى العالمية على تسليم مقاليد الامور فيها
الى جماعات بعيدة من الاجواء العلمية تحول دون قيام مراكز بحوث تتناسب مع
الامكانات المالية لهذه الدول . كذلك يفتقر العالم العربي الى جامعات من المستوى
العالمي الرفيع الذي من شأنه ان يهيئ الطلاب لاغناء التراث العلمي العالمي ,وبخاصة
في مجالات العلم الطبيعية . وقد يكون للسياسة العالمية المهيمنة يد في الحؤول دون
قيام الجامعات المطلوبة , وطنية كانت او اجنبية . وقد يرد مثلا التراجع في المستوى
العلمي للجامعة الاميركية في بيروت وعدم القيام بجهد جدي من اجل رفع مستوى الجامعة
اللبنانية الى وجود سياسة كهذه كل هذه الاسباب تحد من النشاط العلمي في حقول
العلوم الطبيعية , باستثناء بعض الابحاث في مجال العلوم الطبية والكيميائية . اما
العلوم الانسانية فتشهد نشاطاً اكبر وهي لا تحتاج عادة الى امكانات مادية كبيرة ,
وتبقى نسيباً بمنأى عن المخططات السياسية الكبرى , لكنها كثيراً ما تكون مجالاً
خصباً للتأثيرات السلطوية المحلية .
1- القيود
السلطوية المحلية :
يعتقد أ.ف ستون ان الحكم على سقراط بالموت لم يكن قصاصا
له على ما اتهم به من " افساد شبان اثينا او عدم الايمان بالالهة او البحث في
ماهية السماء والارض " بل خوفاً مما كان يمثله وجوده من تهديد للمجتمع في وقت
كان بنيان المجتمع هشاً بعد هزيمة اثينا في الحرب امام سبارطة وبعد موت بركليس .
ففي ذلك الزمن الصعب من تاريخ اثينا لم يكن من الممكن ان يتقبل المجتمع نقد سقراط
للديموقراطية ولا تشجيعه للشبان على حرية الفكر والقول . اضافة الى هذا , فان
هشاشة موقع ارباب السلطة في ذلك الوقت , وهم ضعفاء سياسياً وفاسدون خلقياً , لم
تكون تسمح لهم بالتغاضي عن التهديد لسلطتهم الذي كان يمثله وجود سقراط , وهو الذي
يجسد بتقشفه نقداً لشراهتهم ولاستغلالهم مناصبهم من اجل الاثراء , ويمثل حب الناس
, من تلامذته واقربائهم , واحترامهم له تناقضاً مع سلطتهم الاستبدادية القائمة على
الارهاب .
وطبيعي ان يخاف القيمون على المجتمعات كل من يهدد بهز
اعمدة الهيكل عندما تكون تلك الاعمدة متصدعة او صدئه . واذا صدق تحليا ستون فمن
المتوقع ان يحتمل ارباب السلطة النقد ويسمحوا بانطلاق الفكر وراء الجديد المتغير
عندما يكون بنيان المجتمع راسخاً علىاعمدة قوية , وعندما يرتكزون هم على حب الشعب
ولا يكونون مهددين بان يعاقبهم المجتمع اذا حاسبهم يوماً , جزائياً او سياسياً ,
على ما جنته ايديهم . وقد نحتاج الى ابحاث مستفيضة لسنا الان في صددها , اذا اردنا
ان نثبت ان ما وصفه ستون من اوضاع المجتمع في زمن الحكم على سقراط بالأعدام يشبه
عصور اضطهاد المفكرين على مر الازمنة او اذا اردناان نبرهن ان الازمنة المزدهرة
التي حكم فيها حكام اقوياء ومحبوبون كانت ازمنة تسامح واطلاق للعلم من اعقلة
التعسف , الا انه يمكننا ان نذكر ان عصور الازدهار والسطوة العربية كانت عصوراً
متسامحةتنامت فيها المعارف وشجع حكامها استيراد الجديد واغناءه .وتلك العصور لم
تسمح فقط بنقل الفكر اليوناني وبتفاعل الدين مع الفلسفة الاجنبية , بل شهدت ايضا
تسامحاً عطوفاً نحو شعراء زنادقة او غير ملتزمين النظم الخلقية السائدة , امثال
ابي نواس وابن زيدون وولادة بنت المستكفي .
وفي المقابل , عندما تراجعت سلطة الايمان في اوربا بفعل
الاكتشافات العلمية اضطهد غاليله . وفي عصر هزائم العرب المتلاحقة , التي عرفنا
فيها سلطات بوليسية قامعة للحريات , قتل حسين مروة ومهدي عامل في لبنان وفرج فودا
في مصر وعشرات المفكرين في الجزائر . كذلك اضطهد ويضطهد في هذا العصر كثيرون
وكثيرات امثال نصر حامد ابو زيد الذي قضت المحكمة بطلاق زوجته منه معتبرة اياه
مرتداً عن الاسلام على الرغم من تصريحه بانه مسلم وامثال من قتلن او اهن بسبب
تعبيرهن عن رأيهن كتابة او سفور وجه او حتى لقيادتهن سياراتهن بانفسهن . فمجال
الفكر من علم وفلسفة ( والحياة المتوثبة بشكل عام ) كثيرا ما كان ساحة عراك بين
بين تفجر الحرية الخلاقة وبين سلطوية سياسية كانت ام دينية , تتمسك بالتقليد
وبابقاء الاوضاع على حالها لاسباب قد يكون بعضها نفساً يحبب الى اصحاب السلطة
زمناً احسن اليهم فسخشون زواله . واكثر هذه الاسباب سياسي , باملعنى السئ للسياسة
اذ تحمل المتربعين في السلطة على مقاومة اي تغيير في الاوضاع او العقلية , وكأنهم
يخافون ان يشملهم التغيير يوما ما فيقصيهم عن مواقع يتعلقون بها او يعتبرونها حقاً
طبيعيا وا مكتسباً . ومن طرائف ما عبر عنه هذا المنحى عند ارباب السلطة في بداية
هذا القرن ما وصل الينا من اخبار عن معارضة بعض هؤلاء المتسلطين لجر مياه الشرب او
شق الطرقات الى قراهم , وهذا ان دل على شئ فهو يدل على ان ضعاف النفوس من اصحاب
السلطان لا يعادون التغيير الذي يمس عقائدهم او مكتسباتهم فحسب بل يعادون مطلق
تغيير حتىما كان منه يوفر ملء القرب والجرار على نسائهم او يضئ الظلمات لهم
ولسواهم .
ونظرة فوكو القائلة ان كلا من المرافق الفاعلة , بما فيها
الثقافي والعلمي , هو جزء من التنازع السلطوي المتعدد الوجوه الذي كثيراً ما يؤدي
الى نتائج ايجابية , لا تنطبق كثيراً على مجتمعاتنا ذلك ان نظرته للموضوع تنبع من
تجربة ديموقراطية في مجتمع ترسخ فيه المؤسسات وتحد من مدى تسلط الافراد او
الجماعات . اما في العالم العربي فلا تزال مجتمعاتنا تسمح بجموح سلطوي لا يحده حد
او منطق يطبقه على الناس بعض الافراد او بعض القبائل , وهذا من شأنه ان يفرز نوعا
من السلطوية التي يمكن تسميتها " عصاب التسلط " التي تمنع قيام التداخل
السلطوي الذي يتكلم عليه فوكو اذ انها تعمل على الغاء كل سلطة عداها . من جهة اخرى
ان قرب بعض مجتمعاتنا من الفطرة البعيدة من الفذلكة الاجتماعية التي تنبه وتنمي حب
التسلط على الاخرين يخلق امكانية وجود مفكرين لا يتوخون السلطة او لا تكونالسلطة
على الاخرين من بين اولوياتهم لذا فالصراع السلطوي لدينا هو اقرب الى ما صوره
نيتشه في سلالة الاخلاق منه الى افضل ما رسمه فوكو .
والقارعة بين الحرية والسلطة بما فيها تلك التي تستخدم
الدين غطاءاً لاطماعها الدنيوية تتخذ عادة واحدة من صورتين : صورة يكون فيها
الصراع بين فكر تواق الى تجديد واكتشاف وتعبير وبين سلطة تقمع اي تحرك حر خوفاً
على ديموميتها , واخرى يكون فيها الصراع بين سلطتين او نوعين من التسلط واحد
يستخدم السلطة السياسية واخر يتخذ منموقعه العلمي مطيه لتسلطه , ومبعث الفرق بين
الصورتين المذكورتين هو النيات التي يكنها الجانب العلمي او الفكري , فالسجال بين
الفريقين لا يوجد اصلا عندما تكون نيات اصحاب السلطة سليمة فلا تخاف على نفسها من
التغيير ومن نتاج الفكر ومرامي المعرفة ,كما كان الوضع في ايام العباسيين
والاندلسيين الذين قاموا بتشجيع الفكر والعلم والادب ودعمها وحمايتها ويقترب
السجال الذي يقوم بين افكر والسلطة من الصورة الاولى عندما يكون ارباب الفكر على
شاكلة عالم ارسطو النظري او ناسك العلم والمعرفة الذي يصفه نيتشه بينما يقترب من
الصورة الثانية حين يكون المفكر شبيها بالكاهن المعادي للحياة الذي يصفه نيتشه .
فالعالم النظري كما يصفه ارسطو لا يرغب الا في المعرفة من
اجل ذاتها وهو انسان متجرد وموضوعي ومتطلع الى مثال الخير العام , فلا يطلب لنفسه
شيئاً . و"نساك" نيتشه لا يطلبون السلطة على الاخرين ولكن على انفسهم
وعلى مواد عملهم فهم يرضون انفسهم على العمل الدؤوب الناكر للذات من اجل اجادة
العمل الذي يتعبدون ويرضون مادة عملهم حتى تصبح مطواعة لهم فيستنبطون منها ما لم
يصل اليه احد ممن سبقهم . فمه ينطبق عليه واحد من هذين النموذجين لا يطلب سلطة
دنيوية لنفسه ولا ينخرد في اي مواجهة للسلطة الزمنية الا ان هي حالت بينه وبين
انطلاقه في السعي من اجل المعرفة او من اجل الوصول ب " هوسة " الى ابعاد
تضع للانسانية غايات لم تكن لتطمح اليها من قبل .
اما الصورة الثانية فتنطبق على السجال بين الفكر والعلم ,
وبين السلطة الزمنية من الجهة المقابلة , عندما يستخدم المفكر او العالم طاقته
وعمله من اجل تحقيق اهداف مادية او دنيوية, وقد رسم نيتشه صورة للتمادي في تسخير
الذكاء من اجل الوصول الى السلطة في تصوير طريف , يكاد يكون كاريكاتورياً , للكاهن
المعادي للحياة ويرى نيتشه ان حب السلطة عند هذا " الكاهن " يكون اخطر
واقدر على الاذى والهدم من سلطوية ارباب السلطة الزمنية . فهو يملك ما ليس في
متناولهم من الدهاء ومن القدرة على اخفاء نياتهم وايهام الناس بانه بطلهم ومنقذهم
مما ييسر له المجال في تشويه قيمهم وتنمية الخوف عند الضعفاء منهم وزرع الشعور
بالذنب عند الاقوياء . وهو بذلك كثيرا ما يصل في نهاية المطاف الى السلطة السياسية
, من خلال استخدام الدين والقيم الخلقية , وبفعل اضعاف قوى الخلق وحب الحياة عند
الاخرين .
والفرق الرئيسي بين الصورتين يكمن في ان الصورة الاولى
تمثل تنازعاً بين طالب حرية وبين قامع لها من اجل السلطة , بينما تمثل الصورة
الثانية تنازعاً على السلطة بين موقع السلطة الزمنية القائمة وبين راغب في السلطة
يتدثر بأردية العلم او الدين او الاخلاق , واذا صح ما يراه فوكو من ان السلطة
الفردية في حقول المعرفة لم تعد ممكنة في الازمنة الحاضرة بفضل انتقال تلك السلطة
من الافراد الى الجماعات ( جامعات او مؤتمرات او مؤسسات علمية ) فان هذا يفسر
تزايد اعداد طالبي السلطة مواربة من خلال الدين , الذي يبدو انه اخر ما تبقى من
مجال امام " الكاهن المعادي للحياة "
ومن الامثلة الرعبية على القمع السلطوي الموجه بالدرجة
الاولى ضد حرية الاخرين ونحو تعزيز السلطات القائمة ذلك القمع المتمثل باسكات
الناس ومنعهم من المشاركة في الرأي والقرار في مجالي السياسة والدين . والقمع
الديني , المتمثل باغلاق باب الاجتهاد الذي يفتحه سراً القيمون على السلطة بين ان
واخر لكي يضيفوا اليه حاجزاً جديداً او اداة قمع مبتكرة , هو اشد وقعاً لانه يشمل
جميع الناس بينما يتمكن البعض من البعد من مدى ما تشمله السلطة السياسية . ومن
الواضح ان هذا التكسير ينبعث من عصاب التسلط الذي تسنى له ان يمنع التفكير في
قضايا دين يحض كتابه على العلم ويصرح بتفضيل العلماء ( قل هل يستوي الذين يعلمون
والذين لا يعلمون ) .
ومن الدلائل على ان " العصاب " هو مبعث هذا
النوع من التسلط المذكور قانوناً يخالف الاصول التي من اجلها توضع القوانين .
فالقوانين وجدت في الاصل لحماية الضعيف من القوي , بينما هذا القانون المغلق عليه
يعطي الحق للقوي ويأخذه من الضعيف كما بين الرجال والنساء . والمحاكم وجدت لتسمع
تظلم المغبون وهذا الاغلاق والاقصاء للمرأة عن امور التشريع وغيرها من امور الفقه
يوجد قوانين ومحاكم تنظر في امور العائلة , حيث تكون المرأة عادة مغبونة حين يقع
الغبن , لكنها لا تأخذ للمرأة رأياً ولا تسمح لها بالادلاء بوجهة نظر وتبقى الكلمة
ل " الكهنة " الحاليين بغطاء معنوي من " كهنة " الازمنة
الغابرة .
ثانيا : القيود الداخلية
ان الكلام على " الكاهن المعادي للحياة " وما
يقوم به من غسل ادمغة الناس من اجل السيطر ةعليهم ينقلنا من الكلام على القيود
الخارجية للحرية الى تعداد ما يقيد الحرية من الداخل . واكثر هذه القيود الداخلية
لا يكبل الباحث او العالم العربي وحده بل يقيد غيره من العلماء والباحثيين
المعاصرين ايضاً . وبعض القيود تقسو على العربي بصورة خاصة , وبعضها الاخر لا
يعانيها سواه .
1- القيود
التي تفرضها سيطرة القيمة المادية
في وصف ارسطو للعالم النظري وصف نيتشه لناسك العلم او
الفن نجد ان هذاالمثال الحر لا يتوافر الا اذا حصل التحرر الداخلي من سلطان المادة
. هذا التحرر غدا شبه مستحيل في الزمن المعاصر . فالعلوم التي قسمها ارسطو الى علك
نظرية غايتها وقيمتها المعرفة وعلوم عملية غايتها وقيمتها السعادة وعلوم انتاجية
تعمل من اجل استمرار الحياة غدت جميعها معنية بالانتاج ومعتمدة على الامكانات
المادية , والعلوم الرياضية والطبيعية التي كانت لدى ارسطو تعد علوما نظرية صرفة
انتجت في ايامنا الثورة الصناعية وتسببت اكتشافاتها المذهلة بسباق التسلح وبالثورة
المعلوماتية وبامور اخرى كثيرة على المستويين العلمي والانتاجي , ونمت صلة وثيقة
بين فروع العلوم النظرية والتطبيقية كالرياضيات والفيزياء , وتقلص كثيرا كل اهتمام
لا تشوبه منفعة مادية ما فحتى الانشطة العملية التي تبدو اول وهلة اهتماماً نظريا
صرفاً , مثل محاولة استقصاء المعلومات عن تربة القمر او عن المواد التي يتكون منها
الغلاف الجوي لكوكب المريخ , يرى الممحص ان لها مرامي نفعية وعملية في حقل
الماوصلة البعيدة المدى او في التهويل عسكرياً ومعنوياً على المعسكرات الاخرى .
وطغيان القيم المادية قلل من امكان وجود علماء "
متجردين " وموضوعيين بالمعنى الذي رمى اليه ارسطو وحتى لو وجد بعض من هؤلاء
غير الابهين للمردود العملي او الانتاجي لعملهم فان علم النفس وجد لديهم غايات
نرجسية تجعلهم يتوقون الى ارضاء نزعة التفوق عندهم , او غايات ايروتيكية مموهة
تشعرهم باللذة في صرف الطاقة في السيطرة المعرفية هذااضافة الى الواقع العام في ان
عدد العلماء الذين لا يقاضون في زمننا الحاضر اجوراً على اعمالهم هو عدد قليل جداً
وان اغلبية الابحاث غدت ذات كلفة مادية كبيرة بحيث يستحيل القيام بها والاستمرار
فيها من دون تمويل تقوم به دول او مؤسسات كبرى .
لكل هذه الاسباب اصبح العالم النظري الذي يصفه ارسطو
كائناً يكاد يكون منقرضاً من العالم . وقد اوجد الزمن المعاصر علماء يصرف معظمهم
طاقة في سبيل الحصول على تميل وفي سبيل تأمين المعيشة . وربما اضطر بعضهم الى
الاختيار بين تسخير علمه من اجل الامور المادية او التضحية بكفايته المادية ,
وبالتالي العلمية , ان هو اصر على الانصراف التام الى العلم او اثر التوقف عن
البحث لعدم توافر الامكانات المادية .
- عوائق فلسفية
ان المعرفة وبخاصة الفلسفية منها هي بطبيعتها كونية وشمولية, فلا مناص من
الاستعانة بالنتاج المعرفي الغربي وبخاصة ان الارث الذي تركه لنا اجدادنا وواقعنا
العلمي وما لدينا من متاع فكري لا يكفي للتعامل مع واقع معاصر متمدد ومتسع ومتثور
باستمرار .
وكما في المغرب كذلك في العالم العربي , فالعلوم الانسانية تعاني حينا البعد من
المناخ الفلسفي واحيانا عدم انسجامها مع ما هو معاصر في ذلك المناخ .فبعض العلوم
االانسانية التي تحاول ادعاء قيمة معرفية مشابهة لتلك التي تشمل عليها العلوم
الطبيعية , تعتمد بوجه اساسي على الاحصاء والبيانات الرقمية , متناسية ان البحث عن
المعنى والخلفية الفلسفية ( بما هي دراسة للمعنى تفسر الاشياء من دون ان تغيرها )
هما ضروريان من اجل الحصول على اي نوع من الفهم للسلوك الانساني , فلو رصدنا
السلوك دون المعنى لانتهى بنا الامر الى دراسة السلوك الديني او الشعائري لشعب ما
من خلال ما يعنيه هذا السلوك في مجتمع الدارس او من و جهة نظر علمية , وعندئذ قد
يفقد المعنى او يحور على نحو جذري . فلحمل السلاح في زمن السلم مثلا معنى اكثر
عدائية مما يكون لحمله في زمن الحرب . ولاظهار العاطفة نحو الاطفال على نحو محسوس
في مجتمعنا معنى غير الذي يحمل للسلوك نفسه في المجتمع الاميركي حيث يحث الاطفال
على الشكوى ان لمس اجسادهم احد اقربائهم . فاذا لم يعر السياق للمحيط وللغاية
الذين يقع ضمنها الفعل يساء ما ترصده الحواس من صورة لذلك الفعل . وينتقد بول
ريكور هذا الفهم الخارجي للسلوك الانساني عندما يرى في اقتصار علماء النفس
السلوكيين على التفاسير الاحصائية للمرئي من المثيرات والحوافز , من جهة , ولردود
الفعل من جهة اخرى تفسيرا ناقصاً معتبرا ان التفاسير النفسية لا تكون وافية الا
اذا عالجت الجوانب المخفية والجوانب الظاهرة من البواعث والافعال وينتقد بيتر ونش
المنحى المماثل لدى ماكس فيبر ولدى باريتو لكونها غير واعيين لحقيقة كون النيات
والغايات جزءا لا يتجزء من الفهم الانساني للسلوك , وغير مدركين لقيمة النظرة
الغائية في عملية تعلم العيش في مجتمع انساني حتى وان لم تساعد معرفة الغايات على
استشراف المستقبل , والمنحى الرقمي الكمي او المعتمد على التجربة العملية وحدها من
غير اعتبار للناحية النظرية نجده عندنا مرغوبا في الدراسات التي تمولها الامم
المتحدة او في احصائيات الدول . وقد يكون هذا المنحى وافياً بالغرض عندما يرصد
اشياء بديهية المعنى من اجلب اهداف عملية واضحة مثل رصد اعداد الاولاد في المدارس
بالنسبة الى عدد الاولاد في اعمار الدراسة مناجل انشاء المدارس الللازمة. الا ان
احصاء كهذا لا يمكن تصنيفه علما .
هذا المنحى في البعد من النظرة الفلسفية , بوجه عام , خلق فقراً في المفردات
العلمية وخلق التباساً في النظرية المعرفية التي ينبغي ان تواكب البحث العلمي .
فمثلا تسبب هذا البعد عن البعض في الاعتقاد ان دراسة المجتمعات ببراءة ومن خارج
الدراية بما يميزها هو امر جيد لكونه يساعد علىالموضوعية . وفي هذا خطأ كبير لكون
الموضوعية الاخلاقية في العلوم الانسانية هي شبه مستحيلة , ولكون الموضوعية
العلمية التي تعني في مجال العلوم الانسانية عدم دراية بخلفيات السلوك هي عائق يحول
دون قيام دراسة وثيقة الصلة بواقع الموضوع .
اما من حيث التباعد بين فلسفة العلم المطبقة وفلسفة العلم النظرية , فينطبق على
ممارسي العلوم الانسانية عندنا , في كثير من الاحيان , ما يقوله ستيفن بست من ان
العلوم الاجتماعية لا تزال تدعي كما في زمن الحداثة , مكانة معرفية شمولية مع انها
في واقع الممارسة تجمع حقائق جزئية ومتضاربة تطابق رؤية فلسفية ما بعد الحداثة .
والواقع نا فلسفة ما بعد الحداثة هذه يمكن انتعد ثورة كوبرنيكية رابعة ( بعد
كوبرنيكوس وكانت وفرويد ) , اذ انها تتمادى في الحد من نطاق قدرة الانسان العلمية
, وهذا ما يقاومه العالم الاجتماعي المعاصر بدافع من التوق النرجسي المتأصل في
الانسان الى ان يبقى شمس العالم ومصدر نوره . وهذا التعلق النرجسي بالقيمة
المعرفية لعلوم الانسانية التي كانت النظريات الفلسفية تقول بها في القرن الماضي
ينطبق على الكثير من الاعمال العربية التي تنطلق من تجربة او بحث ميداني محدود
لتطلق التعاميم على الشخصية العربية والمجتمع العربي والتربية العربية والقيم
الخلقية عند المرأة البدوية مثل ما نجده في اعمال السيد يسين وحليم بركات وهشام
شرابي وليلى ابو لغد وغيرهم .
3- قيود تفرضها الهزيمة
ان الهزائم التي مني بها العالم العربي في السنوات الخمسين الاخيرة , وما رافق هذه
الهزائم من تشويه لصورة الانسان العربي لدى الرأي العام العالمي بل ما رافقها ايضا
من دعم للقطاعات المختلفة في مجتمعنا من اجل تثبيت هذه الصورة السلبية ووضعها في
واجهة الواقع الظاهر , ادى الى نوع من العصاب الجماعي الذي يأسر من الداخل حرية
الانطلاق الفكري الموضوعي عند الباحث العربي . فالعربي بوجه عام , والمثقف العربي
على وجه التحديد يحدوه في هذا الزمن اما شعور بالتحدي للقوى التي تهين كرامته
وتحاول ابقاءه في موقع الضحية , او رغبة في حل الاشكال بأي ثمن حتى لو كان ذلك
الثمن الموافقة على النظرة الدونية الى قومه بل الاشتراك في مساندة هذه النظرة
وتعليلها املا منه في قطع عزلته عن العالم .
ورد الفعل الاول يظهر في الاعمال الكثيرة التي تحاول الانكفاء عن الحاضر الاليم
نحو ماضي مشرق كثر الحنين اليه من اجل استنهاض العزائم واحياء الثقة بالنفس . وهذه
الاعمال مصدرها غالباً مفكرون حزبيون ملتزمون مثل مفكري الحزب السوري القومي
الاجتماعي امثال انطوان سعادة ويوسف الاشقر . واحيانا تستقرئ الاعمال هذا الماضي
من اجل محاكاته . لعلنا ان عدنا الى ما كنا عليه نرجع الى احتلال المكانة التي
كانت لنا ايام عزنا . وفي هذا السياق يقعالكثير من الاعمال التي تسمى "
اصولية " ابتداءا ما ظهر في القرن الماضي مناعمال يحكمها فكر " داورني
اجتماعي " بمعنى ان قول داروين ببقاء الانسب سيق على الاوضاع السياسية
والعكسرية للشعوب , وبناءا على هذا السياق انهمك الكثيرون في البحث عما جعلنا
" انسب " في الماضي وما يهدد بقاءنا في الحاضر , وقد رأى كثيرون ان
الاسلام او الاسلام الصحيح هو الجاب عن هذا التساؤل الملح في هذا الوضع الحرج .
ومن بين هؤلاء قاسم امين والبنا وسيد قطب . اما التطرف في هذه المنحى فيبدو في نوع
من العصاب في التمادي في النظر بايجابية الى ما لدينا والتمادي في النظرة السلبية
الى الشعوب الاخرى , وهذا كثيرا ما نجده عند الراغبين في تعليل ابقاء القوانين
العائلية المجحفة بحق المرأة على ما هي لان الرجل المسلم هو غالباً عاشق لزوجته
يضحي في سبيل اسعادها بماله وراحته بينما الزوجان من الاجانب قد يطلبان الطلاق
لخلاف على فيلم سينمائي او لان احدهما رفض ان يقبل كلب الاخر .
اما من حملتهم الهزائم والاوضاع السياسية المتردية على الانكفاء الى المعسكر الاخر
وتبني نظرته الدونية الى الشعب العربي , فكثير منهم يعيش في الغرب ويتبنى نظرته
الى قومه ومن بين هؤلاء فؤاد العجمي الذي ينظر مثلا الى ممارسات عاشوراء عند
الطائفة الشيعية كما ينظر اليها غربي لا يعي شيئاً مما لهذه الممارسات من خلفية في
الرمز والمعنى ونجد هذا المنحى عند كثير من العرب " المستغربين " الذين
ينظرون الى الظواهر العربية بمنظار استشراقي فيسيؤون سبر معانيها فمثلا يوازي كثير
من هؤلاء بين الزي الغربي والتحرر وبين الحجاب والقمع , مع ان فهم الظاهرتين في
وضعيتهما كثيراً ما يظهر خطأ هذا التفسير السطحي الاخذ في ظواهر الامور دون
بواطنها .