تكامل الاقتصاد العربى وأسباب الفشل
تكامل الاقتصاد العربى وأسباب الفشل (*)
دكتور حازم الببلاوى
تمهيد:
تقع
المنطقة العربية فى مجموعها فى الحزام الصحراوى الممتد من شمال أفريقيا
حتى غرب وجنوب غرب آسيا ويحدها من الشمال والشمال الشرقى شريط من منطقة
البحر المتوسط. ولذلك فان المنطقة فى مجموعها تعانى من ندرة شديدة فى
المياه – باستثناء الدول التى تعرف أنهاراً كبرى مثل النيل ودجلة والفرات – كما أنها تتعرض – ربما – لأكبر كمية من أشعة الشمس. ومنذ بداية القرن – وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية – اكتشفت فى هذه المنطقة كميات ضخمة من البترول والغاز الطبيعى. وهكذا فان المنطقة – من بين مناطق العالم – تواجه ظروفاً طبيعية بالغة الشذوذ؛ ندرة شديدة فى المياه مقابل وفرة كبيرة فى مصادر الطاقة، المستخدم منها – البترول والغاز – وغير المستخدم حالياً – الطاقة
الشمسية. وهكذا فان الثنائى المياه/الطاقة، بما يتضمن من فقر وثراء معاً
يمثل دراما هذه المنطقة على رقعة الاقتصاد العالمى، كما يعبر عن أزمات
وتحديات المنطقة وآمالها فى نفس الوقت. فقر المياه يهدد وجودها ومستقبلها،
ووفرة الطاقة تعطيها أهمية استراتيجية كبرى. وأما التوزيع السكانى فانه
يتبع – الى حد بعيد –
نمط توزيع هذه الموارد الطبيعية، فحيث تتوافر المياه أو الطاقة (النفط)
تتجمع المراكز السكانية. ونظراً الى قدم مراكز المياه وحداثة مراكز الطاقة،
فان التجمعات السكانية الكبيرة والقديمة تتركز حول مراكز المياه فى وادى
النيل والهلال الخصيب وشمال أفريقيا (المغرب)، أما مراكز النفط فانها تعرف
كثافة سكانية خفيفة أغلبها من الوافدين. وبشكل عام، فان المنطقة لا تتمتع
بوفرة كبيرة فى الموارد الطبيعية الاخرى. هذا عن أهم عناصر الجغرافيا
الاقتصادية. فماذا عن الهياكل الاقتصادية؟
تعبر هياكل الاقتصاد لدول العالم العربى – بشكل عام –
عن هياكل اقتصادية أقرب الى الدول النامية منها الى الدول المتقدمة، وذلك
رغم ارتفاع معدلات الدخل الفردى فى معظم الدول النفطية التى تتمتع بالريع
النفطى. ولذلك فانه ينبغى التمييز بين مجموعة الدول العربية النفطية وغير
النفطية. أما الدول النفطية فانها تتمتع – كما سبق القول –
بمعدلات دخل فردى يضعها فى قمة دول العالم، وهو أمر يرجع الى توافر الثروة
النفطية من جانب وقلة السكان من جانب آخر. ومع ذلك فسوف يكون من الاجحاف
اختصار هياكل اقتصاديات هذه الدول على النفط رغم أنه لازال يمثل العنصر
الرئيسى فى حياتها. فالحقيقة أن هذه الدول قد عرفت – وخاصة خلال ربع القرن الماضى – جهوداً كبيرة في مجالات إرساء البنية التحتية،مما وضعها – أو بعضا منها – في درجات متقدمة من حيث التنمية البشرية، سواء في توفير المرافق الأساسية المادية – من كهرباء، طرق، إسكان، مياه – أو في توفير الخدمات الاجتماعية من تعليم وصحة، وحماية البيئة. ويشير تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية لعام 2002، الى أن عدة دول خليجية – الكويت، ا لبحرين ، قطر، الإمارات - تحتل مراكز متقدمة من بين أعلى خمسين دولة بالنسبة لمؤشر التنمية البشرية)[1](. كذلك هناك جهود كبيرة فى بعض هذه الدول لبناء قاعدة صناعية – المملكة العربية السعودية – أو مراكز متقدمة للتجارة والخدمات - دبى.
أما
الدول العربية غير النفطية، فأغلبها يقع ضمن مجموعة الدول المتوسطة الدخل
الفردى، وتتمتع بقطاع للصناعات التحويلية التقليدية من سلع استهلاكية
وصناعات تجميع في حدود الخمس من الناتج الاجمالى، مع غلبة لقطاع الخدمات
وتآكل دور القطاع الزراعى نسبياً. وأغلب هذه الدول تعانى من عجوزات فى
موازين المدفوعات نتيجة لضعف القدرة التنافسية لصناعتها الوطنية. وقد أخذت
معظم هذه الدول بسياسات للإصلاح الاقتصادى منذ عقد التسعينات. وهى سياسات
تقوم على تحرير الاقتصاد بعد عدة عقود غلب عليها اقتصاد القطاع العام
وسيطرة الدولة والحماية الجمركية العالية. ورغم ما حققته هذه الدول من
انجازات فى بعض مجالات التنمية البشرية – توقع الحياة عند الولادة مثلاً – فلازالت متخلفة فى جوانب كثيرة أخرى – الأمية، الخدمات الصحية، المشاركة السياسية)[2] (.
هل هناك إقتصاد عربى؟
عندما
نتحدث عن اقتصاد عربى فاننا نقصد وجود كيان اقتصادى مترابط نسبياً، بحيث
تتأثر الاوضاع فيه بما يجرى فى بقية أجزاء هذا الكيان. فالحديث عن اقتصاد
عربى يعبر عن نوع العلاقات العضوية بين مختلف أجزاء هذا الكيان، ويظهر ذلك
فى زيادة حجم المعاملات االبينية للسلع والخدمات بالمقارنة مع المعاملات مع
العالم الخارجى، وفى السهولة النسبية لانتقالات عناصر الإنتاج، وفى التأثر
المتبادل لتغيرات الاسعار أو السياسات الاقتصادية. وفى ضوء هذا التعريف
المبسط، فانه يصعب القول اننا بصدد "اقتصاد عربى".
قد
يكون من السهل الحديث عن "العالم العربى" ككيان ثقافى، ولكن الحديث عن
"إقتصاد عربى" هو من قبيل المجاز أو التمنى. فالاقتصاديات العربية مجزأة،
وهى قليلة الترابط الاقتصادي فيما بينها، حيث ترتبط
كل دولة فى المنطقة بالعالم الخارجى بأكثر مما ترتبط بالمنطقة. وحتى فى
الأحوال التى تزيد فيها العلاقات الاقتصادية البينية، فإنها كثيراً ما
ترتبط بأوضاع عارضة أو غير مستقرة. فالواقع العربى، قد يمثل حقيقة تاريخية،
أو جغرافيه، أو لغوية، أو حضارية أو غير ذلك، ولكن بالقطع لا يرقى إلى مستوى "الحقيقة الاقتصادية"، وإن كان ذلك لا يمنع – بالطبع – من إمكانية تحوله إلى مثل هذه الحقيقة إذا توفرت الظروف المناسبة – على ما سنرى.
رغم
كثرة الحديث عن التعاون الاقتصادى العربى، أو التكامل أو حتى الاندماج،
فلا تزال العلاقات الاقتصادية العربية/العربية المحدودة. فمنذ إنشاء جامعة
الدول العربية فى 1945 ثم المجلس الاقتصادى والاجتماعى فى 1953 ومجلس
الوحدة الاقتصادية العربية 1957، ورغم العديد من الاتفاقات الاقتصادية
العربية، فلا تزال التجارة البينية العربية أقل من 10% من حجم النجارة
الخارجية للدول العربية فى حين أنها تبلغ حوالى 40% فى مجموعة الدول
الأسيوية وأكثر من 20% فى دول أمريكا اللاتينية، فضلاً عن السوق الأوروبية
التى تزيد فيها التجارة البينية عن 60%. ولا يقتصر الأمر على ضآلة حجم
التجارة العربية البينية، بل أن معدل نموها شهد فى التسعينيات تناقصاً وليس
تزايداً. فقد أنخفض معدل نمو الصادرات البينية من حوالى 13% سنوياً فى
الفترة 86 – 1989 إلى ما يقرب من الصفر فى الفترة 90 –
1996، وانخفض معدل الواردات البينية من 14% إلى 7% بين الفترتين المشار
إليهما. ونأمل أن يكون فى توقيع إتفاقية منطقة التجارة العربية الحرة فى
1998 والبدء فى تنفيذها ما يغير من هذه الأوضاع والتوجهات.
وإذا
كانت التجارة العربية البينية ما تزال محدودة، مما يعكس ضعفاً فى الترابط
الاقتصادي العربي، فإن الحقيقة أن هذه الصورة هى نتيجة لدخول تجارة النفط
فى المعاملات، والمعروف أن صادرات النفط تتجه فى الغالب إلى العالم
الخارجى. ولذلك فإنه إذا إستبعدنا النفط من الحساب، فإن الصور تصبح أكثر إشراقاً، وخاصة بالنسبة لبعض دول المنطقة فصادرات الأردن مثلاً لمنطقة – بدون النفط –
تمثل 47%، وسوريا 20%، وهكذا فإن دخول النفط فى التجارة الخارجية للدول
العربية ساعد على مزيد من الإندماج فى السوق العالمية على حساب الارتباط
بالسوق العربية. ورغم كل ذلك فما تزال التجارة العربية البينية محدودة ولا
تبرر الحديث عن منطقة إقتصادية أو حقيقة إقتصادية مؤثرة.
وإذا
كان هذا هو حال التجارة، فإن الأمر يختلف بالنسبة لانتقالات عناصر
الإنتاج: العمل ورأس المال، إذ عرفت المنطقة إنتقالات هامة لعناصر الإنتاج،
وخاصة العمل، خلال الحقبة النفطية. فكما هو معروف تعانى دول الخليج
النفطية من هشاشة سكانية، ثم مع ثورة النفط وما تطلبه من حركة بناء وتوسيع،
فقد كان من الضرورى استقدام أيد عاملة من الدول المجاورة. وهكذا عرفت
الحقبة النفطية وخاصة منذ السبعينات انتقالات هامة للأيدى العاملة – وخاصة من الدول العربية المجاورة –
إلى الدول الخليجية. وقد صاحب هذه الإنتقالات للعمالة حركة تحويلات هامة
من العاملين فى هذه الدول إلى بلدانهم الأصلية حتى أصبحت تحويلات العاملين – فى بعض الأحيان – أهم مصدر للعملة الأجنبية لعدد من الدول العربية غير النفطية –
مصر، اليمن، الأردن، السودان بالإضافة إلى دول المغرب العربى. ومع ذلك
فينبغى أن نشير إلى أن اتجاه انتقال العمالة إلى الدول النفطية قد بدأ فى
الإنخفاض فيما بين الدول العربية.
وإلى جانب إنتقالات العمالة – وما ترتب عليها من تحويلات للعاملين –
فقد ساعدت الحقبة النفطية على قيام تيار من المعونات العربية من الدول
النفطية إلى الدول العربية الأخرى. وقد نشأت لهذا الغرض عدة مؤسسات مالية
عربية – وطنية أو جماعية –
لتشجيع تمويل المشروعات العربية؛ مثل الصندوق الكويتي للتنمية، الصندوق
العربي للإنماء، صندوق النقد العربي، صندوق أبو ظبي للتنمية، الصندوق
السعودي للتنمية. فضلاً عن إنشاء عدد من المؤسسات التي تسهم في تحسين أجواء
ومناخ الاستثمار؛ مثل المؤسسة العربية لضمان الاستثمار والعديد من المصارف
العربية.
يتضح
مما تقدم أنه على حين أن التجارة العربية البينية ما تزال ضئيلة، فان
انتقالات عناصر الإنتاج – وخاصة العمل – فيما بين الدول العربية يمثل أهمية
كبيرة في الاقتصاديات العربية. ويثور التساؤل هنا، ألا تعتبر انتقالات
عناصر الإنتاج - العمل بوجه خاص – مظهراً للتكامل
الاقتصادي مما يبرر الحديث عن اقتصاد عربي؟ الحقيقة أن انتقالات عناصر
الإنتاج فيما بين الدول العربية كانت لها آثار بعيدة على الهياكل
الاقتصادية، فضلاً عن الآثار الاجتماعية الناشئة عن المعايشة بين أفراد
الأمة العربية. ومع ذلك فان انتقالات عناصر الإنتاج، وعلى خلاف التجارة
تخضع لاعتبارات خاصة قد لا تجعلها كافية لإنشاء كيان اقتصادي متكامل،
فانتقالات عناصر الإنتاج لا تصلح وحدها لأن تكون أساساً دائماً
للتعاون الاقتصادي الإقليمي. فمن ناحية يمكن أن تتأثر هذه الانتقالات
بالاعتبارات السياسية، كما حدث في معظم دول الخليج إثر حرب الخليج الثانية،
أو الاعتبارات الاقتصادية – كما حدث في معظم هذه الدول مع انخفاض أسعار
النفط وظهور الركود الاقتصادي بها. ويرجع ذلك إلي أن وجود عمالة وافدة
كثيراً ما يثير حساسيات سياسية واجتماعية يصعب السيطرة عليها مما يساعد على
ظهور انتفاضات بين الحين والآخر. وكذلك لا ينبغي أن ننسى أن حاجة الدول
الخليجية للعمالة الوافدة تتجه إلي الانخفاض التدريجي، نتيجة انتهاء فترة
البناء والتشييد الواسعة من ناحية ومع ظهور أيد عاملة وطنية مدربة من ناحية
أخرى. أما قيام التجارة البينية بين الأطراف المتعاملة في منطقة معينة
فانه يعنى أن يتشكل الاقتصاد ويتحدد التخصص الدولي أو الإقليمي في كل منها
على نحو أكثر استقراراً ومع مراعاة الاحتياجات المتبادلة في هذه الأسواق.
فالتجارة البينية تؤثر في تشكيل هياكل الإنتاج في الدول المعينة بشكل
متكامل فيما بينها بحيث تخلق أنواعاً من الترابط الإنتاجي مع ما يترتب عليه
من آثار على تخصيص الموارد بين الصناعات المختلفة وإنشاء شبكات من
العلاقات التجارية المستمرة، وبالتالي التأثير في شكل المعيشة على نحو يومي
ومستقر. أما انتقالات عناصر الإنتاج فإنها لا تعدو أن تؤدي إلى تحويلات
مالية متقطعة وغير منتظمة مع بقاء الهياكل الإنتاجية في كل دولة منفصلة عن
الدول المتجاورة. وأخيراً، فان قيام تيار من التجارة البينية بين دول
المنطقة كثيراً ما يؤدى أيضاً إلي تشجيع الاستثمارات المتبادلة.
ولا
ينبغي أن نعتقد أن وضع الدول العربية من حيث انتمائها القومي والثقافي
وتفككها الاقتصادي والسياسي أمر غريب، فحتى نهاية الحرب العالمية الثانية،
كانت أوروبا – ورغم تاريخها الحضاري وقيمتها الثقافية المشتركة – مجزأة
اقتصادياً؛ إنجلترا ترتبط بمستعمراتها وكذا الحال بالنسبة إلي فرنسا،
وهولندا، في حين أن إيطاليا تبحث عن مستعمرات، أما ألمانيا فإنها تتعامل
أساساً مع وسط أوروبا بحثاً عن مجالها الحيوي. ولذلك فوحدة أوروبا
الاقتصادية حديثة وليست قديمة، وهى "مصنوعة" ليست "طبيعية" حتى أن جان
مونيه – Jean Monet
– أبو أوروبا الحديثة – كان يقول بعد الحرب العالمية الثانية – "أن أوروبا
لم توجد بعد ولابد من خلقها" وقد سبقه في هذه المقولة بسمارك الذي رأى –
في سبعينات القرن التاسع عشر – في أوروبا مجرد حقيقة جغرافية)[3] (وقد
يكون من المفيد أن نشير هنا إلي علاقة التطورات الإقليمية بالتطورات
العالمية. فالعولمة في أوروبا هي مزيد من الاندماج الاوروبى وليس الاندماج
العالمي. فليس صحيحاً أن الاتجاه العام في الدول هو دائماً نحو مزيد من
الاندماج العالمي، فالإقليمية كانت جسراً للعالمية، الأمر الذي لم يحدث في
المنطقة العربية.
لماذا لم ينجح التكامل الاقتصادي العربي؟
السؤال
الذي يطرح نفسه هنا هو لماذا لم يتحقق التكامل الاقتصادي العربي في الواقع
رغم كثرة الحديث عنه؟ بل لعل سؤالاً سابقاً يطرح نفسه، هل حقاً التعاون
الاقتصادي الإقليمي مطلوب، أم أن الاندماج في الاقتصاد العالمي كاف،
وبالتالي فانه لا محل – مع اتجاهات العولمة والانفتاح على العالم – لتعاون
إقليمي؟ وهل التكامل الإقليمي خطوة أم على العكس عقبة أمام الانفتاح على
الاقتصاد العالمي؟ أو بعبارة أخرى هي الإقليمية مكملة أم معرقلة للعالمية؟
وإذا كانت الإجابة بأن الإقليمية خطوة مدعمة للتعامل مع الاقتصاد العالمي
ولها فوائدها للدول المتجاورة، فلماذا لم تتحقق رغم ما فيها من فوائد؟ هذه
أسئلة تحتاج إلي إجابات، أو على الأقل، إلي عناصر للإجابة.
يعتبر مؤلف جاكوب فاينر عن "الاتحادات الجمركية")[4](
هو الأساس النظري لقضايا الاتحادات الإقليمية. ويميز فاينر في تحديد
الدلالة الاقتصادية لمثل هذه الاتحادات الإقليمية وما توفره من تفضيلات على
اتجاه التخصص والتجارة، فيميز بين ما يطلق عليه أثر إنشاء أو خلق التجارة Trade Creation Effect واثر تحويل التجارة Trade Diversion Effect.
في الحالة الأولى تؤدى المزايا والتفضيلات الإقليمية إلي خلق فرص جديدة
للإنتاج، وبالتالي للتجارة، تتمتع بمزايا نسبية نتيجة اتساع السوق وزوال
العقبات بين أعضاء التكتل الإقليمي. أما في الحالة الثانية فان زيادة
التجارة بين أعضاء الاتحاد لا تكون نتيجة لفرص جديدة بقدر ما هي نتيجة
للمعاملة التفضيلية بين دول الاتحاد على حساب التجارة الأكثر كفاءة مع بقية
العالم الخارجي. وهكذا فان "الاتحاد الإقليمي" – في رأى فاينر – يزيد من
الكفاءة الاقتصادية عندما يؤدى هذا الترتيب الإقليمي إلي خلق فرص جديدة
للتجارة، ولا يكون كذلك إذا لم يترتب عليه سوى تحويل التجارة نتيجة لهذه
الحماية والتفضيلات الإقليمية.
وقد يؤخذ على تحليل فاينر أنه من ناحية، تحليل استاتيكى، ومن ناحية أخرى "اقتصادي" Economistic
بحيث لا يأخذ في الاعتبار سوى الآثار الاقتصادية بالمعنى الضيق، في حين أن
الاندماج أو التكامل الإقليمي قد تكون له آثار بعيدة على شكل المؤسسات
السياسية والاقتصادية والتي تؤثر بدورها على الأداء الاقتصادي في المدة
الطويلة. ففي حالة الوحدة الأوروبية مثلاً لم تقتصر أهم نتائج التعاون
الاقتصادي الإقليمي بين دول المجموعة الأوروبية على المؤشرات الاقتصادية
وحدها بقدر ما برزت في حماية التقاليد الأوروبية في نتائج اقتصادية مباشرة
نتيجة لتوافر سوق واسعة.
وإذا
نظرنا إلي المجموعة العربية فإننا نجد أن معظم الدول العربية لا تتمتع إلا
بأسواق محلية محدودة مما يحول دون الوصول إلي الكفاءة الاقتصادية في معظم
الفروع الإنتاجية الصناعية. فالصناعة الحديثة هي بطبيعتها صناعة للأسواق
الكبيرة، وبالتالي فان استمرار التجزئة في الأسواق العربية يعنى حرمان
المنطقة من أية صناعة واعدة. وأحد الأسباب وراء نجاح الاقتصاد الأمريكي هو
سعة السوق، فهي قارة دون حواجز أو عقبات. فالحجم في ذاته هو إحدى المزايا
النسبية للإنتاج وحرمان المنطقة العربية من مزايا الحجم هو حرمانها من إحدى
المزايا النسبية للإنتاج المعاصر. ولعل أخطر ما
يهدد مستقبل الصناعة في المنطقة العربية هو عدم توافر سوق مناسبة، فمعظم
الدول العربية دول صغيرة مبعثرة. وهكذا فان التعاون الاقتصادي العربي هو في
الأساس العمل على توفير سوق اقتصادية واسعة. ولعل المنطقة العربية في هذا
الصدد أقرب إلي نموذج آدم سميث للتجارة منها إلي نمـوذج ريكـاردو. فالأول
كان يرى أن أساس التقدم هو توافر الأسـواق الكبيرة والتي تتيـح مزايا
التخصص وتقسيم العمل وتوفير اقتصاديات النطاق Economies of Scale،
في حين أن الثاني – ريكاردو – اقتصر على آثار اختلاف التكاليف النسبية
بافتراض وجود سوق كافية لكل اقتصاد. وإذا أخذنا في الاعتبار مدى توافر
الإمكانيات المالية، وبالتالي القدرة على الاستثمار، في معظم دول الخليج
والتي تعانى من نقص وقصور الأسواق المحلية، فإننا ندرك إلي أية درجة يحول
عدم توافر الحجم الاقتصادي المناسب من الاستفادة القصوى محلياً من الموارد
المتاحة (الفوائض المالية). وفى نفس الوقت فإن عدداً من الدول العربية
الأخرى ذات الأسواق الكبيرة نسبياً يعانى من قصور في الإمكانات المالية.
وبذلك فانه يبدو أن مزيداً من التكامل الإقليمي يمكن أن يوفر فرصاً للأموال
الخليجية للاستثمار الحقيقي في المنطقة العربية بدلاً من التوظيف المالي
في الأسواق المالية العالمية. وقد سبق في دراسـة مستقلـة أن أوضح الكاتب
مدى خطورة التوظيف المالي Financial Placement بالمقارنة بالاستثمـار الحقيقي Real Investment
بالنسبـة لـدول الفائض من الخليج فيما يتعلق بحماية القيمة الحقيقية لهذه
التوظيفات. فالتوظيف المالي هو توظيف في أصول مالية غالباً دون أن يترتب
على ذلك بالضرورة زيادة في الاستثمارات الحقيقية، أما الاستثمار الحقيقي
وهو ما يتحقق عند الاستثمار عادة في الدول النامية مما يؤدى إلي زيادة
حقيقية في حجم الاستثمارات العينية على مستوى العالم. وقد أوضح التحليل
المتقدم أن الاستثمارات الحقيقية هي التي تضمن حماية القيمة الفعلية بعكس
التوظيف المالي الذي غالباً ما تتآكل قيمته مع مرور الزمن)[5] (.
ولا يخفى أن تحقيق مثل هذا الهدف لا يمكن أن يتحقق دون إجراء إصلاحات
إقتصادية وتشريعية ومؤسسية في الدول العربية المستقبلة للإستثمارات بما
يحقق مناخاً إستثمارياً وحماية فعّالة لحقوق المستثمرين.
كذلك
لا ينبغي أن ننسى أن معظم الدول النامية تواجه الآن تحدياً نحو فتح
أسواقها أمام السوق العالمية دون تمييز، الأمر الذي يفرض عليها أعباء غير
قليلة للتأقلم مع هذه الأوضاع الجديدة، وهى أمور تحتاج لأن يتم ذلك على
فترات معقولة وبدرجة من التدرج تسمح لصناعاتها بالاستعداد لهذه المنافسة
القادمة. ولا يخفى أن الترتيبات الإقليمية بما تتضمنه من مزايا متبادلة
لدول الجوار وبما يسمح بتقوية اقتصادياتها في جو من المنافسة المقبولة، أمر
يساعد هذه الدول على الدخول في الترتيبات العامة على نحو أكثر قدرة وبشروط
أفضل للمساومة. ويظهر الأمر بشكل واضح ومحدد في حالة الدخول في ترتيبات مع
المجموعة الأوروبية التي تواجه الدول العربية منفردة بدلاً من التعامل
معها كمجموعة إقليمية. وهكذا تعتبر "الإقليمية" خطوة
على مسار "العالمية". وقد كانت هذه أي على الأحوال محصلة تجربة أوروبا.
فالاندماج الاوروبى في العولمة إنما قد جاء من خلال مزيد من الاندماج
الاقتصادي الاوروبى.
وأخيراً
فانه مع اتجاهات العولمة وغلبة الايدولوجية الليبرالية، فان تجزئة وانفصال
العلاقات بين الدول العربية يساعد على استمرار الأنماط القائمة في أشكال
التنظيم السياسي والاقتصادي وبالتالي الإنعزال عن التيار العالمي السائد،
في حين أن فتح الأبواب وإتاحة حرية التجارة والعمل والملكية لأبناء الأمة
العربية من مختلف الأقطار من شأنه أن يساعد على إدخال الأفكار الجديدة
للتحرير وتوسيع انتشارها. وبذلك فان مزيداً من التقارب والتعاون الاقتصادي
العربي في إطار من الليبرالية قد يكون عاملاً مساعداً لتدعيم قوى الحرية
والديمقراطية في المنطقة العربية. وسوف تتضح هذه النقطة في تحليلنا اللاحق.
ورغم
هذه المنافع التي يتفق عليها الاقتصاديون فقد ظل التكامل الاقتصادي العربي
دون مستوى الآمال التي عقدت عليه. ويعترف معظم الاقتصاديين بوجود عدد من
العقبات المادية أو المؤسسية التي أعاقت – في وقت أو آخر – من نمو العلاقات
الاقتصادية العربية على النحو المأمول به.
هناك
تداخل في كثير من الأحيان بين العقبات المادية والمؤسسية. فمن بين العقبات
المادية نحو نمو التجارة ضعف شبكة المواصلات من طرق وخطوط ملاحة وخدمات
مرتبطة، ومع ذلك فكثيراً ما تزيد الإجراءات المتبعة من أسباب عرقلة انسياب
التجارة بين الدول. فإذا كانت شبكة الطرق بين مختلف الدول غير كافية – على عكس الوضع
مثلاً بالنسبة للدول الأوروبية – فان إجراءات الحدود والتخليص الجمركي
كثيراً ما تزيد الأمور تعقيداً مما يؤدى إلي رفع تكلفة النقل. أضف إلي ذلك
أن هناك علاقة تبادلية يختلط فيها السبب بالنتيجة في العلاقة بين نقص حجم
التجارة العربية البينية ونقص خطوط الملاحة البحرية بين مختلف المواني
العربية. فنتيجة لصغر حجم التجارة العربية البينية بين الدول العربية لا
توجد خطوط ملاحية كافية ودائمة وبالتالي ترتفع تكلفة النقل بين هذه الدول.
وبالمقابل، فانه نظراً لعدم توافر الخدمات الملاحية بشكل كاف، فان فرصاً
للتجارة تضيع. وهكذا، تتداخل الأسباب مع النتائج، وتصبح هذه العقبة سبباً لنقص التجارة ونتيجة في نفس الوقت.
وبالإضافة
إلي هذه العقبات المادية، كانت هناك عقبات سياسية ومؤسسية، وخاصة في
الستينات عندما انقسم العالم العربي إلي معسكرين، معسكر الدول "التقدمية"
أو الاشتراكية من ناحية، ومعسكر الدول "الرجعية" أو الرأسمالية من ناحية
أخرى. وبصرف النظر عن دقة الأوصاف، فقد عكس هذا الانقسام السياسي
والايدولوجى قطعية كبيرة في العلاقات الاقتصادية لأسباب سياسية وايدولوجية.
ورغم أن هذه الأوضاع قد تلاشت إلي بعيد منذ السبعينات، فان آثار هذه
الفترة مازالت قائمة في الأذهان بدرجات متفاوتة. فمن ناحية مازالت هناك
"ذكريات" الشكوك والريبة المتبادلة، وهناك أيضاً مؤسسات نشأت في ظل هذه
الأوضاع، وبالتالي استمرت في ممارسات قديمة حيث يصعب تغييرها بين ليلة
وضحاها.
على
أن الأمر لابد وأن يكون أعمق مما تقدم فهذه العقبات أو معظمها، لا يعدو أن
تكون أموراً وقتية ما تلبث أن تزول. وبالفعل فان العديد من هذه العقبات –
مادية ومؤسسية – قد تلاشت أو تضاءلت إلي حد بعيد خلال الثلاثين سنة
الماضية، ولم تزل حال التكامل الاقتصادي العربي على ما هي عليه. فمنذ
السبعينات وقد بدأ التناقض الايدولوجى في الزوال، واتجهت معظم الدول
العربية إلي الأخذ بشكل أو آخر من أشكال اقتصاد السوق والدعوة اليه. كذلك
فان الاستثمارات في البنية الأساسية، من حيث شبكة المواصلات وسعة المواني
وحجم خطوط الطيران قد زادت بدرجة كبيرة. ومع ذلك فان ذلك لم ينعكس في شكل
تغيير ملحوظ في حجم العلاقات الاقتصادية العربية، ومن ثم فلابد من البحث عن
أسباب أكثر عمقاً وراء هذه الظاهرة.
ويمكن
القول بأن تضاؤل النتائج المتحققة في ميدان التعاون الاقتصادي العربي يطرح
قضية منطقية بالنسبة لمدى عقلانية العمل العربي. وهل يعمل "النظام العربي"
لمصلحته أم ضد مصلحته؟
فإذا
كان التحليل المشار اليه آنفاً صحيحاً وان مزيداً من الاندماج الاقتصادي
الإقليمي (العربي) نافع ومفيد، فان السؤال يطرح نفسه، لماذا إذن لم يتحقق
هذا التقارب الاقتصادي العربي، ولماذا ظل شعاراً للمناسبات أكثر منه حقيقة
على أرض الواقع؟ هل معنى ذلك انعدام في الرشادة الاقتصادية، بحيث يتجاهل
المسؤولون العرب مصالحهم ويتخذون مسارات ضد هذه المصلحة؟ ويتضمن طرح
الموضوع بهذا الشكل عدة أمور يصعب التوفيق بينها؛ وهى أن:
1. هناك مصلحة اقتصادية في مزيد من التعاون والاندماج الاقتصادي بين الدول العربية.
2. رغم الاعتراف بهذه المصلحة، فان هذا التعاون لا يتحقق على أرض الواقع بدرجة كافية رغم التغني بمزايا الوحدة عبر نصف قرن من الزمان.
3. أخيراً
يصعب أن ننسب إلي المسؤولين في الدول العربية عدم رشادة السلوك أو انعدام
المنطق في سياساتهم. فالمسؤولون السياسيون في معظم الدول العربية – رغم ما
قد يبدو أحياناً – يتصرفون عادة بدرجة كبيرة من الرشادة والدهاء السياسي
ولا ينقصهم المنطق السليم في الاستقرار والاستمرار السياسي. فكيف تفوتهم
هذه الحنكة السياسية عندما يتعلق الأمر بالمصالح الاقتصادية؟ هذه هي
المعضلة. كيف يمكن التوفيق بين هذه المقولات الثلاث المشار إليها، كيف تكون
رشيداً ومنطقياً في سلوكك السياسي بشكل عام، ولا تعمل في نفس الوقت على
تحقيق أوضاع تزيد من "المنفعة الاقتصادية العامة"؟
لعّل
الإجابة على هذه التناقض تكمن في معنى "المنفعة الاقتصادية العامة"، ومدى
ما تتضمنه من تكاليف، الأمر الذي يتطلب التذكير بفكرة "السلعة العامة".
التكامل الاقتصادي "سلعة عامة":
يعرف
الاقتصاديون "السلعة" بأنها كل شئ نافع من ناحية وأن توفيرها يتطلب تكلفة
أو تضحية من ناحية أخرى. فالسلعة يجب أن تكون نافعة ولكنها أيضاً ليست
مجانية. فليس كل شئ نافع سلعة. فالهواء وهو أنفع الأشياء لا يعتبر سلعة
لأنه لا يكلف شيئاً *
. والأصل أن العلاقة المنفعة والتكلفة تحدد ما ينتج من سلع، فطالما أن
المنافع تزيد على التكاليف، فان المجتمعات تتجه إلي توفير هذه السلع حيث أن
ما تحققه من ورائها من منافع يزيد على ما تتحمله من تكاليف وأعباء. وتقوم
عادة السوق بتوفير هذه السلع. ولكن هذا الأمر لا يتحقق دائماً حيث أن هناك
من السلع التي لا شك في منافعها والتي تزيد فيه هذه المنافع على تكاليفها،
ورغم ذلك فإنها لا تتوافر تلقائياً في السوق. وهذا يقتضي التفرقة بين ما
يعرف بـ"السلع الخاصة" private goods و"السلع العامة" public goods.
ويشترك
النوعان في أن توفيرهما يتطلب تكاليف وأعباء، وبالتالي فإنها ليست منحاً
مجانية، ولكنهما يختلفان في نوع المنفعة التي تترتب عليهما ومدى إمكان
الاستئثار أو شيوع الانتفاع بها. أما التكاليف فلابد وأن يتحملها أفراد أو
مؤسسات بعينها. وما لم يكن هؤلاء الأفراد والمؤسسات على استعداد لتحمل
تكاليف إنتاج السلعة، فانه لا يمكن توفيرها مما بلغت منافعها. ولذلك فان
توفير أي سلعة إنما هو رهن بمدى توافر الاستعداد لتحمل تكاليف وأعباء
توفيرها، فإذا لم يوجد هذا الاستعداد فلن تنتج هذه السلع وإن طال الحديث عن
أهميتها. وبطبيعة الأحوال فان الاستعداد الاختياري لتحمل تكاليف وأعباء
توفير السلعة، إنما يرتبط بمدى تقدير المنفعة العائدة من هذه السلعة
ومقارنة هذه المنفعة بالتكاليف المطلوبة. والعبرة هنا هو بالمنفعة والتكلفة
العائدة لمن يتحمل التكلفة، أما ما يعود على الغير فانه لا يدخل في
الحساب. ولذلك فمن الضروري أن تكون هذه المنافع قابلة للاستئثار وليست
شائعة. وهنا نجد أن السلع تختلف فيما بينها من حيث شيوع أو استئثار المنافع
المترتبة عليهـا. وهـذا هو أسـاس التفرقة بين " السلع الخاصة " و" السلع
العامة ". فالأولـى تعـرف مبدأ الاستئثار principle of exclusion
بمعنـى أن المستخـدم للسلعة يفيد منها – بشكل عام – وحده دون مشاركة
الآخرين، وبالتالي فانه يكون عادة على استعداد لتحمل تكاليفها. وتنجح السوق
بالتالي في توفيرها. أما "السلع العامة" فان منافعها تكون عادة شائعة،
فمتى أديت لفرد فان الغير يمكن أن يفيد منها بلا تكلفة، الأمر المعروف في
أدبيات الاقتصاد بـ"الراكب المجاني" free rider.
ومن هنا فان السلع العامة تثير عادة مشكلة كبرى في توفيرها. فهي ليست أقل
أهمية أو فائدة من "السلع الخاصة"، بل قد تكون أكثر أهمية، مثل توفير الأمن
والاستقرار والعدالة ونظام نقدي مستقر ومرافق عامة – ومع ذلك فالغالب ألا
يتقدم أحد، اختياراً، لتحمل تكاليف توفيرها اعتماداً على فكرة الراكب
المجاني. فلماذا يتقدم أي فرد لتحمل أعباء إنتاجها أو توفيرها مع علمه أن
توفيرها سيفيد الآخرين دون تكلفة (الراكب المجاني)؟ وكل
فرد يفضل الانتظار لكي يتقدم غيره بتحمل تكلفة السلعة ويفيد منها هو
باعتباره "راكباً مجانياً". ولذلك فرغم إدراك كل فرد بأهمية السلع والخدمات
العامة، فعادة لا يمكن توفيرها اختيارياً، والأصل أن تتوافر عن طريق تدخل
وقهر السلطة، التي تقتطع الضرائب جبراً من الأفراد وتوفر الخدمات العامة
بحصيلة هذه الضرائب أو عن طريق نوع من التوافق العام كما في العديد من
الأعمال الخيرية. ومن هنا فانه رغم الاعتراف بأهمية وضرورة السلع العامة،
تقوم دائماً مشكلة مدى توفير هذه السلع. وتختلف المجتمعات في مدى قدرتها
على توفير مثل هذه الخدمات وفقاً لمدى توافر نظم سياسية واجتماعية قادرة
على اقتطاع الموارد جبراً أو اتفاقاً وتخصيص هذه الموارد لتوفير هذه السلع
العامة وتوزيعها على الأولويات المختلفة. وكثيراً ما تفشل المجتمعات في
توفير هذه السلع أو توفيرها بشكل مناسب نتيجة لطبيعة النظام السياسي
والاجتماعي ومدى قدرته على استخدام القهر المشروع أو التوافق العام لتوفير
هذه السلع والخدمات العامة. ومن هنا فإننا لا نجد أي تناقض أو عدم رشادة في
التأكيد على أهمية ومنفعة سلعة أو خدمة من ناحية وعدم إمكان توفيرها من
ناحية أخرى. فالاعتراف بمنفعة السلعة أو الخدمة لا يعنى، منطقياً قبول تحمل
أعباء وتكاليف إنتاجها وتوفيرها. فقد تتركز التكاليف والأعباء على فئة في
حين أن المنفعة تكون شائعة وموزعة على آخرين. وبالتالي نكون بصدد سلعة أو
خدمة عامة بحيث لا يكون أحد مستعداً لتحمل أعباء توفيرها)[6] (.
ولذلك فانه من المتفق عليه أن السلع والخدمات العامة لا يمكن توفيرها
اختياراً – رغم أهميتها – وأنه لابد من تدخل سلطة عليا أو الوصول إلي اتفاق
بين المتعاملين على كيفية توفيرها وتوزيع أعباء إنتاجها عليهم.
وفيما
يخص الموضوع الذي نحن بصدده، فإننا نعتقد أن التعاون أو الاندماج
الاقتصادي العربي هو نوع من السلعة أو الخدمة العامة الإقليمية التي تعود
بالنفع على الجميع، ولكن هذا النفع شائع متى تحقق أفاد منه الجميع ولا يمكن
حرمان أحد منه. وعندما نتحدث عن الجميع فإننا نشير إلي الأفراد والمشروعات
سواء منها القائمة أو المحتملة الإنشاء، وسواء منها الوطني أو الأجنبي –
فالجميع يشمل كافة الوحدات الاقتصادية في الحاضر والمستقبل التي تتعامل مع
الاقتصاد. وبالمقابل فان توفير هذه السلعة أو الخدمة ليس أمراً مجانياً، بل
يترتب عليه أعباء وتكاليف. وإذا كانت منافع التعاون الاقتصادي تعود على
الجميع بهذا المعنى، فان القرار في شأنها هو من شأن السلطات السياسية التي
تضع القيود على سيادتها ومدى الحواجز بين الصناعات القائمة بها وبين
الخارج. ففى حالة التعاون الاقتصادي العربي، فإننا نجد أنفسنا بصدد وضع
لدول مستقلة عليها أن تقدر المنافع والأعباء التي تعود عليها – كدول أو نظم
سياسية – من هذا التعاون وما يترتب على ذلك من تأثير على نشاطها
الاقتصادي. فإذا كانت الأعباء التي تفرض على هذه الدول – كنظم سياسية أو
قطاعات اقتصادية – تجاوز المنافع التي تعود عليها مباشرة فلا أمل في أن
تقبل مثل هذا التعاون. ولا يتناقض هذا السلوك إطلاقاً مع الرشادة
الاقتصادية، بل أنه يعتبر انصياعاً لها. فليست
الرشادة هي في المقارنة بين المنافع الإجمالية والتكاليف الإجمالية، وإنما
هي في المقارنة بين المنافع العائدة إلي متخذ القرار السياسي بالتكامل
الاقتصادي والتكاليف التي يتحملها، أما ماعدا ذلك فانه لا يعدو أن يكون من
العناصر الخارجية externalities
التي لا تدخل في حسابه. فنقطة البدء في المناقشة قضية التعاون الاقتصادي
العربي، هي أنها قضية تعنى بالعلاقة بين قرارات سياسية – تتخذ لإزالة
العقبات أمام التكامل الاقتصادي وان المنطق وراءها هو مدى ما يتحقق لمتخذي
هذه القرارات من منافع أو تكاليف تعود عليها مباشرة نتيجة لمثل هذه
القرارات.
بدأ
الحديث عن التعاون الاقتصادي العربي – كما ذكرنا – منذ إنشاء الجامعة
العربية بعد الحرب العالمية الثانية وارتفعت النبرة خلال فترة الخمسينات
والستينات فيما عرف بحركة القومية العربية. وهكذا فان الدعوة إلي التعاون –
أو الاندماج الاقتصادي – ارتبطت في الأساس بدعوة سياسية قومية. وتستند هذه
الدعوة إلي وحدة الأمة العربية، وإن الحدود السياسية إنما هي حدود
اصطناعية فرضها الاستعمار ومن ثم وجب إزالتها. فالأقطار العربية القائمة
ينبغي أن تزول لتتحقق الوحدة العربية السياسية. وهكذا جاءت الدعوة للتعاون
الاقتصادي العربي في بدايتها وتحمل في طياتها – بشكل غير صريح ولكنه غير
خفي – تساؤلات عن مدى شرعية الحدود السياسية ووجود الأقطار العربية نفسها.
وقد عاصر هذه الفترة شيوع نظم حكم عربية ذات طابع عسكري وانقلابي مما ساعد
على تأكيد هذه الهواجس والمخاوف. وهكذا بدا كما لو كان ثمن التعاون
الاقتصادي العربي هو تهديد نظم الحكم والأوضاع الاقتصادية القائمة في
العديد من البلدان. وهى تكلفة عالية لا يقبل أحد بتحملها حتى وإن كانت
المنافع المقابلة هي اتساع السوق وزيادة الازدهار الاقتصادي، وهى منافع
شائعة تعود على الجميع بلا تحديد. ومع بروز الثروة النفطية، وخاصة في
السبعينات، ظهر تناقض أكبر بين الثروة المالية الجديدة وبين دعوة الوحدة
العربية أو الثورة العربية. فالتعاون الاقتصادي العربي بدا – بشكل ما – كما
لو كان دعوة للمشاركة في هذه الثروة الجديدة الوافدة، الأمر الذي أوجد
حساسية لدى قطاعات واسعة من مواطني الدول الخليجية. وبذلك فقد تضمنت الدعوة
إلي التعاون الاقتصادي العربي – منذ البداية – تهديداً للنظم السياسية
القائمة وللهياكل الاقتصادية السائدة. وقد يبدو غريباً – ولكنها الحقيقة –
أن تتناقض الدعوة إلي القومية العربية – في صورتها القائمة آنذاك – مع
متطلبات التعاون الاقتصادي العربي، حيث بدت تلك الدعوة كما لو كانت تمثل
تهديداً للنظم السياسية القائمة في العديد من البلدان العربية. وهكذا فقد
ولدت الدعوة للتعاون الاقتصادي في إطار مع الدعوة القومية للوحدة السياسية
وإزالة الدولة القطرية، وهو ما يمثل ثمناً باهظاً لعديد من النظم السياسية،
وبالتالي وجب منطقياً عدم الحماس له.
ولا
يقتصر الثمن السياسي للتعاون الاقتصادي العربي – آنذاك – فيما بد من
تهديدات لاستقرار العديد من النظم السياسية، بل أنه حتى مع اختفاء مثل هذا
التهديد وخاصة بعد أن بدأت مرحلة التعايش بين النظم المختلفة بعد حرب 67،
فان هذا التعاون كان يتضمن – بشكل ما – تقييداً لسلطات النظم السياسية
القائمة في العديد من البلدان العربية. فالحاكم في معظم البلدان العربية –
آنذاك – وأيا كان لقبه – ملكاً أو أميراً، أو رئيساً، أو قائداً – هو عادة
حاكم مطلق لا تكاد تحد إرادته أية قيود، وهو يتمتع بهذه السلطات تجاه أبناء
شعبه حيث لا سلطة تعارضه. ولاشك أن فتح الأبواب للأبناء الدول الشقيقة –
ووراء كل منهم حكومته – من شأنه أن يقيد من سلطات الحاكم إزاء بعض الضغوط
من الدول الشقيقة حماية لمصالح أبناءها، الأمر الذي يتضمن تضيقاً لسلطات
الحاكم. ومن نفس المنطلق وجدنا أن العديد من النظم العربية قد قاومت – خلال
التسعينات – إجراءات الإصلاح والتحرير الاقتصادي الداخلي، لأنها تضمنت –
في التحليل الأخير – تقليصاً لسلطات الحكومات المركزية في الشؤون
الاقتصادية. فالتحرير الاقتصادي يعنى وضع بعض الحدود على سلطات الحكومات
المركزية بما يتيحه من حرية حركة للقطاع الخاص. وليس بعيداً عن ذلك حال
التعاون الاقتصادي العربي، ذلك أن مزيداً من التعاون الاقتصادي مع أبناء
الدول الشقيقة يضع حدوداً مماثلة على سلطات الحكومات المركزية بما يفرضه
عليها من مراعاة احتياجات الدول الشقيقة وضغوطها. فالنظم المطلقة تتمتع
بسلطات واسعة إزاء مواطنيها، وليس الأمر كذلك بالنسبة لمواطني الدول الأخرى
– بمن فيهم مواطني الدول الشقيقة. وهكذا فان فتح باب النشاط الاقتصادي
لمواطني الدول الشقيقة لا يخلو من فرض بعض القيود على حرية هذه النظم.
ولذلك فان فتح الباب لغير مواطني البلد يتضمن عادة ثمناً سياسياً لتلك
النظم حيث لا تستطيع أن تباشر نفس السلطات على غير مواطنيها.
وإذا
كانت الدعوة إلي التكامل الاقتصادي العربي قد صاحبها – وخاصة في بدايتها –
مخاوف من تحمل تكاليف وأعباء سياسية للنظم السياسية القائمة – فان الأمر
لم يخل أيضاً من تكاليف وأعباء اقتصادية يمكن أن تتحملها بعض القطاعات
الصناعية التي تتمتع بحماية لا ترغب في التخلي عنها.
فالصناعة
في معظم الدول العربية قد قامت على أساس إحلال الواردات ووجود سوق محلية
تحظى بحماية جمركية عالية نسبياً. ولذلك فان هذه الصناعات ترى بشكل عام في
تحرير التجارة مع العالم الخارجي أو من خلال تعاون إقليمي أضعافاً لمركزها
التنافسي في الداخل، وبالتالي مهددة لأرباحها. وهكذا فان مثل هذه الصناعات
تعبر عادة عن نوع من المقاومة لأية إجراءات يترتب عليها أضعاف ما تتمتع به
من حماية للسوق المحلى. ومن هنا موقفها المناوىء في كثير من الأحيان
لإجراءات التعاون الاقتصادي الإقليمي فيما يتضمنه من تخفيف أو إزالة ما
تتمتع به هذه الصناعات من مركز متميز في أسواقها المحلية.
والتعاون
الاقتصادي الإقليمي، شأنه شأن كل قرار اقتصادي، يؤدي إلى منافع وأضرار،
عوائد وأعباء. فهناك المستفيدون منه. كما أن هناك أيضاً المتضررين، والعبرة
في النهاية هي بالمقارنة بين حجم ووزن المنافع من ناحية وحجم ووزن الأضرار
من ناحية أخرى. ومع ذلك فإن الأمر ليس متعلقاً فقط بالحجم المطلق لكل
منهما، بل كثيراً ما يتعلق بالصوت العالي Voice.
فهناك بعض المصالح القادرة على التعبير عن نفسها بقوة رغم أنها قد لا تكون
كبيرة، في حين أن مصالح أخرى كبيرة قد لا تنجح في التعبير عن نفسها بنفس
القوة رغم أهميتها. ويعتبر المثال السابق عن موقف بعض الصناعات الوطنية من
تحرير التجارة بالمقارنة بموقف جمهور المستهلكين منه نموذجاً واضحاً
للعلاقة بين الصوت العالي وحجم المصالح.
فإذا
كان تحرير التجارة يضعف من الوضع التنافسي – أو الاحتكاري – لعدد من
الصناعات الوطنية، فانه يوفر للمستهلكين في نفس الوقت فائدة كبيرة في إتاحة
السلع بأسعار أقل وربما بنوعية أفضل. وهكذا نجد تقابلا بين ما قد يلحق بعض
الصناعات من خسارة، وبين ما قد يحققه المستهلكين من كسب كنتيجة لتحرير
التجارة أو للتعاون الاقتصادي الإقليمي. وقد يكون الكسب المتحقق أكبر من
الخسارة الواقعة، ولكن الغالب هو أن صوت الصناعيين يكون عادة أعلى وأقوى من
صوت المستهلكين. ولذلك أسباب. ونشير في هذا الصدد إلي أمرين. الأمر الأول
التفرقة بين الخسارة "المحققة" "realized loss" وبين الكسـب "الضائع" "foregone benefit"
فهنـا نقارن بين شركة تحقق بالفعل خسارة أو نقصاً في الأرباح، وبذلك فإنها
تتحدث عن أشياء تحققت بالفعل بالمقارنة بالماضي، وهى أمور يمكن قياسها،
وبالتالي فان الشعور بها يكون عادة قوياً. أما الكسب المحتمل، أو المتوقع،
فهو إشارة إلي "أمل" لم يتحقق في أي وقت في الماضي، وإنما هو تطلع إلي
المستقبل. ولذلك فان المطالبة به تكون أقل حدة مما هو الحال في الدف