تكامل الاقتصاد العربى وأسباب الفشل (*)
دكتور حازم الببلاوى
تمهيد:
تقع
المنطقة العربية فى مجموعها فى الحزام الصحراوى الممتد من شمال أفريقيا
حتى غرب وجنوب غرب آسيا ويحدها من الشمال والشمال الشرقى شريط من منطقة
البحر المتوسط. ولذلك فان المنطقة فى مجموعها تعانى من ندرة شديدة فى
المياه – باستثناء الدول التى تعرف أنهاراً كبرى مثل النيل ودجلة والفرات – كما أنها تتعرض – ربما – لأكبر كمية من أشعة الشمس. ومنذ بداية القرن – وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية – اكتشفت فى هذه المنطقة كميات ضخمة من البترول والغاز الطبيعى. وهكذا فان المنطقة – من بين مناطق العالم – تواجه ظروفاً طبيعية بالغة الشذوذ؛ ندرة شديدة فى المياه مقابل وفرة كبيرة فى مصادر الطاقة، المستخدم منها – البترول والغاز – وغير المستخدم حالياً – الطاقة
الشمسية. وهكذا فان الثنائى المياه/الطاقة، بما يتضمن من فقر وثراء معاً
يمثل دراما هذه المنطقة على رقعة الاقتصاد العالمى، كما يعبر عن أزمات
وتحديات المنطقة وآمالها فى نفس الوقت. فقر المياه يهدد وجودها ومستقبلها،
ووفرة الطاقة تعطيها أهمية استراتيجية كبرى. وأما التوزيع السكانى فانه
يتبع – الى حد بعيد –
نمط توزيع هذه الموارد الطبيعية، فحيث تتوافر المياه أو الطاقة (النفط)
تتجمع المراكز السكانية. ونظراً الى قدم مراكز المياه وحداثة مراكز
الطاقة، فان التجمعات السكانية الكبيرة والقديمة تتركز حول مراكز المياه
فى وادى النيل والهلال الخصيب وشمال أفريقيا (المغرب)، أما مراكز النفط
فانها تعرف كثافة سكانية خفيفة أغلبها من الوافدين. وبشكل عام، فان
المنطقة لا تتمتع بوفرة كبيرة فى الموارد الطبيعية الاخرى. هذا عن أهم
عناصر الجغرافيا الاقتصادية. فماذا عن الهياكل الاقتصادية؟
تعبر هياكل الاقتصاد لدول العالم العربى – بشكل عام –
عن هياكل اقتصادية أقرب الى الدول النامية منها الى الدول المتقدمة، وذلك
رغم ارتفاع معدلات الدخل الفردى فى معظم الدول النفطية التى تتمتع بالريع
النفطى. ولذلك فانه ينبغى التمييز بين مجموعة الدول العربية النفطية وغير
النفطية. أما الدول النفطية فانها تتمتع – كما سبق القول –
بمعدلات دخل فردى يضعها فى قمة دول العالم، وهو أمر يرجع الى توافر الثروة
النفطية من جانب وقلة السكان من جانب آخر. ومع ذلك فسوف يكون من الاجحاف
اختصار هياكل اقتصاديات هذه الدول على النفط رغم أنه لازال يمثل العنصر
الرئيسى فى حياتها. فالحقيقة أن هذه الدول قد عرفت – وخاصة خلال ربع القرن الماضى – جهوداً كبيرة في مجالات إرساء البنية التحتية،مما وضعها – أو بعضا منها – في درجات متقدمة من حيث التنمية البشرية، سواء في توفير المرافق الأساسية المادية – من كهرباء، طرق، إسكان، مياه – أو في توفير الخدمات الاجتماعية من تعليم وصحة، وحماية البيئة. ويشير تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية لعام 2002، الى أن عدة دول خليجية – الكويت، ا لبحرين ، قطر، الإمارات - تحتل مراكز متقدمة من بين أعلى خمسين دولة بالنسبة لمؤشر التنمية البشرية)[1](. كذلك هناك جهود كبيرة فى بعض هذه الدول لبناء قاعدة صناعية – المملكة العربية السعودية – أو مراكز متقدمة للتجارة والخدمات - دبى.
أما
الدول العربية غير النفطية، فأغلبها يقع ضمن مجموعة الدول المتوسطة الدخل
الفردى، وتتمتع بقطاع للصناعات التحويلية التقليدية من سلع استهلاكية
وصناعات تجميع في حدود الخمس من الناتج الاجمالى، مع غلبة لقطاع الخدمات
وتآكل دور القطاع الزراعى نسبياً. وأغلب هذه الدول تعانى من عجوزات فى
موازين المدفوعات نتيجة لضعف القدرة التنافسية لصناعتها الوطنية. وقد أخذت
معظم هذه الدول بسياسات للإصلاح الاقتصادى منذ عقد التسعينات. وهى سياسات
تقوم على تحرير الاقتصاد بعد عدة عقود غلب عليها اقتصاد القطاع العام
وسيطرة الدولة والحماية الجمركية العالية. ورغم ما حققته هذه الدول من
انجازات فى بعض مجالات التنمية البشرية – توقع الحياة عند الولادة مثلاً – فلازالت متخلفة فى جوانب كثيرة أخرى – الأمية، الخدمات الصحية، المشاركة السياسية)[2] (.
هل هناك إقتصاد عربى؟
عندما
نتحدث عن اقتصاد عربى فاننا نقصد وجود كيان اقتصادى مترابط نسبياً، بحيث
تتأثر الاوضاع فيه بما يجرى فى بقية أجزاء هذا الكيان. فالحديث عن اقتصاد
عربى يعبر عن نوع العلاقات العضوية بين مختلف أجزاء هذا الكيان، ويظهر ذلك
فى زيادة حجم المعاملات االبينية للسلع والخدمات بالمقارنة مع المعاملات
مع العالم الخارجى، وفى السهولة النسبية لانتقالات عناصر الإنتاج، وفى
التأثر المتبادل لتغيرات الاسعار أو السياسات الاقتصادية. وفى ضوء هذا
التعريف المبسط، فانه يصعب القول اننا بصدد "اقتصاد عربى".
قد
يكون من السهل الحديث عن "العالم العربى" ككيان ثقافى، ولكن الحديث عن
"إقتصاد عربى" هو من قبيل المجاز أو التمنى. فالاقتصاديات العربية مجزأة،
وهى قليلة الترابط الاقتصادي فيما بينها، حيث
ترتبط كل دولة فى المنطقة بالعالم الخارجى بأكثر مما ترتبط بالمنطقة. وحتى
فى الأحوال التى تزيد فيها العلاقات الاقتصادية البينية، فإنها كثيراً ما
ترتبط بأوضاع عارضة أو غير مستقرة. فالواقع العربى، قد يمثل حقيقة
تاريخية، أو جغرافيه، أو لغوية، أو حضارية أو غير ذلك، ولكن بالقطع لا يرقى إلى مستوى "الحقيقة الاقتصادية"، وإن كان ذلك لا يمنع – بالطبع – من إمكانية تحوله إلى مثل هذه الحقيقة إذا توفرت الظروف المناسبة – على ما سنرى.
رغم
كثرة الحديث عن التعاون الاقتصادى العربى، أو التكامل أو حتى الاندماج،
فلا تزال العلاقات الاقتصادية العربية/العربية المحدودة. فمنذ إنشاء جامعة
الدول العربية فى 1945 ثم المجلس الاقتصادى والاجتماعى فى 1953 ومجلس
الوحدة الاقتصادية العربية 1957، ورغم العديد من الاتفاقات الاقتصادية
العربية، فلا تزال التجارة البينية العربية أقل من 10% من حجم النجارة
الخارجية للدول العربية فى حين أنها تبلغ حوالى 40% فى مجموعة الدول
الأسيوية وأكثر من 20% فى دول أمريكا اللاتينية، فضلاً عن السوق الأوروبية
التى تزيد فيها التجارة البينية عن 60%. ولا يقتصر الأمر على ضآلة حجم
التجارة العربية البينية، بل أن معدل نموها شهد فى التسعينيات تناقصاً
وليس تزايداً. فقد أنخفض معدل نمو الصادرات البينية من حوالى 13% سنوياً
فى الفترة 86 – 1989 إلى ما يقرب من الصفر فى الفترة 90 –
1996، وانخفض معدل الواردات البينية من 14% إلى 7% بين الفترتين المشار
إليهما. ونأمل أن يكون فى توقيع إتفاقية منطقة التجارة العربية الحرة فى
1998 والبدء فى تنفيذها ما يغير من هذه الأوضاع والتوجهات.
وإذا
كانت التجارة العربية البينية ما تزال محدودة، مما يعكس ضعفاً فى الترابط
الاقتصادي العربي، فإن الحقيقة أن هذه الصورة هى نتيجة لدخول تجارة النفط
فى المعاملات، والمعروف أن صادرات النفط تتجه فى الغالب إلى العالم
الخارجى. ولذلك فإنه إذا إستبعدنا النفط من الحساب، فإن الصور تصبح أكثر إشراقاً، وخاصة بالنسبة لبعض دول المنطقة فصادرات الأردن مثلاً لمنطقة – بدون النفط –
تمثل 47%، وسوريا 20%، وهكذا فإن دخول النفط فى التجارة الخارجية للدول
العربية ساعد على مزيد من الإندماج فى السوق العالمية على حساب الارتباط
بالسوق العربية. ورغم كل ذلك فما تزال التجارة العربية البينية محدودة ولا
تبرر الحديث عن منطقة إقتصادية أو حقيقة إقتصادية مؤثرة.
وإذا
كان هذا هو حال التجارة، فإن الأمر يختلف بالنسبة لانتقالات عناصر
الإنتاج: العمل ورأس المال، إذ عرفت المنطقة إنتقالات هامة لعناصر
الإنتاج، وخاصة العمل، خلال الحقبة النفطية. فكما هو معروف تعانى دول
الخليج النفطية من هشاشة سكانية، ثم مع ثورة النفط وما تطلبه من حركة بناء
وتوسيع، فقد كان من الضرورى استقدام أيد عاملة من الدول المجاورة. وهكذا
عرفت الحقبة النفطية وخاصة منذ السبعينات انتقالات هامة للأيدى العاملة – وخاصة من الدول العربية المجاورة –
إلى الدول الخليجية. وقد صاحب هذه الإنتقالات للعمالة حركة تحويلات هامة
من العاملين فى هذه الدول إلى بلدانهم الأصلية حتى أصبحت تحويلات العاملين
– فى بعض الأحيان – أهم مصدر للعملة الأجنبية لعدد من الدول العربية غير النفطية –
مصر، اليمن، الأردن، السودان بالإضافة إلى دول المغرب العربى. ومع ذلك
فينبغى أن نشير إلى أن اتجاه انتقال العمالة إلى الدول النفطية قد بدأ فى
الإنخفاض فيما بين الدول العربية.
وإلى جانب إنتقالات العمالة – وما ترتب عليها من تحويلات للعاملين –
فقد ساعدت الحقبة النفطية على قيام تيار من المعونات العربية من الدول
النفطية إلى الدول العربية الأخرى. وقد نشأت لهذا الغرض عدة مؤسسات مالية
عربية – وطنية أو جماعية –
لتشجيع تمويل المشروعات العربية؛ مثل الصندوق الكويتي للتنمية، الصندوق
العربي للإنماء، صندوق النقد العربي، صندوق أبو ظبي للتنمية، الصندوق
السعودي للتنمية. فضلاً عن إنشاء عدد من المؤسسات التي تسهم في تحسين
أجواء ومناخ الاستثمار؛ مثل المؤسسة العربية لضمان الاستثمار والعديد من
المصارف العربية.
يتضح
مما تقدم أنه على حين أن التجارة العربية البينية ما تزال ضئيلة، فان
انتقالات عناصر الإنتاج – وخاصة العمل – فيما بين الدول العربية يمثل
أهمية كبيرة في الاقتصاديات العربية. ويثور التساؤل هنا، ألا تعتبر
انتقالات عناصر الإنتاج - العمل بوجه خاص – مظهراً
للتكامل الاقتصادي مما يبرر الحديث عن اقتصاد عربي؟ الحقيقة أن انتقالات
عناصر الإنتاج فيما بين الدول العربية كانت لها آثار بعيدة على الهياكل
الاقتصادية، فضلاً عن الآثار الاجتماعية الناشئة عن المعايشة بين أفراد
الأمة العربية. ومع ذلك فان انتقالات عناصر الإنتاج، وعلى خلاف التجارة
تخضع لاعتبارات خاصة قد لا تجعلها كافية لإنشاء كيان اقتصادي متكامل،
فانتقالات عناصر الإنتاج لا تصلح وحدها لأن تكون أساساً دائماً
للتعاون الاقتصادي الإقليمي. فمن ناحية يمكن أن تتأثر هذه الانتقالات
بالاعتبارات السياسية، كما حدث في معظم دول الخليج إثر حرب الخليج
الثانية، أو الاعتبارات الاقتصادية – كما حدث في معظم هذه الدول مع انخفاض
أسعار النفط وظهور الركود الاقتصادي بها. ويرجع ذلك إلي أن وجود عمالة
وافدة كثيراً ما يثير حساسيات سياسية واجتماعية يصعب السيطرة عليها مما
يساعد على ظهور انتفاضات بين الحين والآخر. وكذلك لا ينبغي أن ننسى أن
حاجة الدول الخليجية للعمالة الوافدة تتجه إلي الانخفاض التدريجي، نتيجة
انتهاء فترة البناء والتشييد الواسعة من ناحية ومع ظهور أيد عاملة وطنية
مدربة من ناحية أخرى. أما قيام التجارة البينية بين الأطراف المتعاملة في
منطقة معينة فانه يعنى أن يتشكل الاقتصاد ويتحدد التخصص الدولي أو
الإقليمي في كل منها على نحو أكثر استقراراً ومع مراعاة الاحتياجات
المتبادلة في هذه الأسواق. فالتجارة البينية تؤثر في تشكيل هياكل الإنتاج
في الدول المعينة بشكل متكامل فيما بينها بحيث تخلق أنواعاً من الترابط
الإنتاجي مع ما يترتب عليه من آثار على تخصيص الموارد بين الصناعات
المختلفة وإنشاء شبكات من العلاقات التجارية المستمرة، وبالتالي التأثير
في شكل المعيشة على نحو يومي ومستقر. أما انتقالات عناصر الإنتاج فإنها لا
تعدو أن تؤدي إلى تحويلات مالية متقطعة وغير منتظمة مع بقاء الهياكل
الإنتاجية في كل دولة منفصلة عن الدول المتجاورة. وأخيراً، فان قيام تيار
من التجارة البينية بين دول المنطقة كثيراً ما يؤدى أيضاً إلي تشجيع
الاستثمارات المتبادلة.
ولا
ينبغي أن نعتقد أن وضع الدول العربية من حيث انتمائها القومي والثقافي
وتفككها الاقتصادي والسياسي أمر غريب، فحتى نهاية الحرب العالمية الثانية،
كانت أوروبا – ورغم تاريخها الحضاري وقيمتها الثقافية المشتركة – مجزأة
اقتصادياً؛ إنجلترا ترتبط بمستعمراتها وكذا الحال بالنسبة إلي فرنسا،
وهولندا، في حين أن إيطاليا تبحث عن مستعمرات، أما ألمانيا فإنها تتعامل
أساساً مع وسط أوروبا بحثاً عن مجالها الحيوي. ولذلك فوحدة أوروبا
الاقتصادية حديثة وليست قديمة، وهى "مصنوعة" ليست "طبيعية" حتى أن جان
مونيه – Jean Monet
– أبو أوروبا الحديثة – كان يقول بعد الحرب العالمية الثانية – "أن أوروبا
لم توجد بعد ولابد من خلقها" وقد سبقه في هذه المقولة بسمارك الذي رأى –
في سبعينات القرن التاسع عشر – في أوروبا مجرد حقيقة جغرافية)[3] (وقد
يكون من المفيد أن نشير هنا إلي علاقة التطورات الإقليمية بالتطورات
العالمية. فالعولمة في أوروبا هي مزيد من الاندماج الاوروبى وليس الاندماج
العالمي. فليس صحيحاً أن الاتجاه العام في الدول هو دائماً نحو مزيد من
الاندماج العالمي، فالإقليمية كانت جسراً للعالمية، الأمر الذي لم يحدث في
المنطقة العربية.